ثمة قول مأثور من التراث البابلي عن فضائل التسوية: «لا يوجد سلام حيث تكون الحقيقة كاملة، ويكون سلام حيث لا توجد حقيقة كاملة». ما كان يحاول قوله الحكماء القدماء هو أن طلب العدالة الكاملة للمجتمع أو القضية قد يكون مرضيا أيديولوجيا، ولكن لا ينسجم مع السلام، وهذا لأن السلام مبني على التسويات ذات اللون الرمادي وليس الأسود أو الأبيض.
وما يجعل من هذه الحكمة أكثر تعقيدا هو العلاقة بين الحقيقة والدين. فالدين يمثل الحقيقة المطلقة التي تأتي من الله وتمثل إرادته. فكيف يمكن في هذه الحال، حتى لو في سبيل السلام، القيام بتسوية بين مجتمعات من أديان مختلفة - بمعنى آخر تفسيرات مختلفة لإرادة الله؟
فعندما تعرّف المجتمعات عن نفسها وفقا للدين أو تعرّف بدينها تحديدا، تصبح الحالات أكثر تعقيدا وأكثر عرضة للمواجهة. فيطال الدين بعض أعمق المشاعر والأحاسيس عند الأفراد والمجتمعات. إنه رائد في الذكريات التاريخية العميقة، وغالبا ما تناشد بالولاء العالمي، وخصوصا في حال المسيحية والإسلام. وبهذا يعتبر الدين سببا للصّراع وغالبا ما يكون، في الواقع، محفزا للنزاعات حيث مسبباته بعيدة عن روح الدين.
قد وجد الباحثون الذين يدرسون الحرب والعدوان والجذور النشوئية للنزاع أن شنّ الحرب عادة ليست بصعبة. ويستغرق إلقاء قنبلة نووية أخرى قبل أن يستلم الجميع الرسالة. فقليلة جدا هي المرات في تاريخ الحضارة حيث لم تكن هناك حروب مستمرة في مكان ما. وفي القرن العشرين، مات ما يقدر بـ 100 مليون شخص في حروب العالم.
وجد علماء الآثار والأنثروبولوجيا أدلة العسكرية ربما في 95 في المئة من الثقافات التي درسوها. فكان المحاربون الأفراد الأكثر احتراما بين جماعتهم. ووجد علماء الوراثه أدلة تثبت أن جنكيز خان، إمبراطور المغول الثالث عشر، أنجب عددا كبيرا من الأولاد، وقد يكون 16 مليون شخص أحفادا له. كتب آرثر كويستلر، مؤلف «الظلام في الظهيرة»: أنه «ووفقا للإحصاءات نادرا ما ترتكب جرائم القتل بدوافع أنانية في جميع الثقافات. وتغلب ظاهرة القتل بدوافع غير أنانية على تاريخ الإنسان. فمأساته ليست نتيجة فائض في العدوان بل هو إفراط في التفاني. فالولاء والإخلاص يولدان المتعصبين وليس الروحية ما تولدهم».
«وبقدر ما الإسلام معني، هناك ثلاثة عوامل رئيسية تؤجج الصراعات وتعيق بناء السلام في العالم: سوء فهم الأفراد والجماعات المتطرفة لتفسيرات الإسلام، وسوء فهم غير المسلمين للديانة الإسلامية، وخصوصا في الغرب، إضافة إلى سوء فهم أو تشويه الإسلام في وسائل الإعلام الدولية.
وليس من الصعب ملاحظة أن الإسلام متورط في العديد من الصراعات العالمية الأساسية اليوم.
هناك تفسيران مختلفتان لهذه الظاهرة: يعتقد المسلمون أن المشكلة تكمن في الصورة السلبية للإسلام عند الوعي الغربي وفي الجهود المستمرة لزعزعة العالم الإسلامي كوسيلة لضمان أمن «إسرائيل». ومن جهة أخرى، يؤمن غير المسلمين بأن المشكلة تكمن في الإسلام ويرَوْن أنّه « دين رفضيّ يأبى الديمقراطية والليبرالية». في ما يعتبر المسلمون أنفسهم ضحايا في سبيل المحاولة لحماية دينهم، بينما يعتبر غير المسلمين الإسلام نفسه مشكلة. فيبحث المسلمون عن حل لتحسين صورة الإسلام. بينما يقول غير المسلمين أنه لا يمكن أن يكون هناك حلّ إلا من خلال الإسلام وذلك عن طريق تغيير في المفاهيم الأساسية للدين.
ولكن الحقيقة هي أن قتل إنسان بريء من قبل الإسلام يعتبر جريمة ضد الإنسانية كلها. فهي جريمة لا مبرّر لها مهما يحاول المجرمون استغلال الدين لتبرير أعمالهم الشريرة. فيقول النبي محمد (ص): «المسلم من سلم النّاس من يده ولسانه» أي أن المسلم هو من لا يسيء إلى أي شخص ليس المسلمون فقط] أكان بيده أو بلسانه. ولكن السياسة هي عمل الإنسان، بينما الدين هو عمل الله الذي خلق الإنسان. وهذا ما يجعل من السياسة الدينية أمرا خطيرا حيث يمكن اعتبار تنفيذ القرارات السياسية تنفيذا لإرادة الله، ومعارضة هذه القرارات تعتبر معارضة لإرادة الله.
فمثلا، أثّر الدين بطريقة غير مباشرة على السياسة الأميركية في الشّرق الأوسط منذ زمن ولايزال. إلا أنه لم يكن بقدر ما هو عليه في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش. ولهذا يقوم رد الفعل المعادي لتلك السياسة في العالم الإسلامي على الدين أيضا. فالجانبان على خطأ، لأنه لا يمكن تصحيح الخطأ بخطأ آخر. يمكن لهذه الأخطاء أن تبني السلام وتُشرك الروحانية بشكل قليل جدا.
كتبت اسما اسفارودين، وهي استاذة في الدراسات الإسلامية في جامعة نوتردام: «لمعالجة الوضع المتدهور في العالم اليوم ومشكلة التطرف الديني المزعوم، علينا أن نجعل الأولوية القصوى للقضاء على الفقر في العالم وتعزيز كرامة البشر العاديين. «وعلينا أيضا إعادة إدماج القيم المعنوية والأخلاقية في المجال العام والدبلوماسية الدولية، وجعل قادتنا متمسكين بهذه القيم.
وتكون هذه الطريقة الأفضل لإضعاف برامج المتطرفين التي تغذي مآسي الفقراء والضعفاء. ومن هذه الأسباب المشتركة، المبنية على مبادئ أخلاقية عالمية، تلتقي مجموعات مختلفة من الناس معا.
لا تبدأ الصراعات العسكرية لأن جهة تطلق النار على الأخرى. فالحروب تبدأ في الأذهان ويمكن أن نصنع السلام في الأذهان فقط. ولهذا السبب فإن بناء السلام لا يعتمد فقط على وقف إطلاق النار أو حتى على التسويات السياسية. بل هو مبني على الثقافة والتعليم وعلى شكل من أشكال الروحانيّة النابعة من عقول المؤمنين.
فالدمار لا يؤمن الحياة أو يمثل النصر. فالاعتقاد بأن تدمير»الأشرار» مهمة مقدسة باستطاعتها تحرير قوى الحرية والديمقراطية مجرد وهم. والنصر الواهم هو أسوأ أنواع الهزيمة.
*الأمين العام للجنة الحوار المسيحي،
والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1600 - الإثنين 22 يناير 2007م الموافق 03 محرم 1428هـ