تصاعد في الأسابيع الخمسة الأخيرة الكلام الصحافي عن وجود اتصالات سرية سورية - إسرائيلية. وذهب الكلام إلى تعيين الأمكنة التي دارت فيها المفاوضات، ومستوى التمثيل من الطرفين، وأسماء الوسطاء، والنقاط التي بحثت، والموضوعات التي اتفق بشأنها، وأخيرا فشل التوصل إلى صيغ نهائية بسبب الاختلاف على تسوية شاملة لكل الملفات.
هذا السيناريو توالت الصحافة الإسرائيلية على نشره في أكثر من صحيفة وعلى طبعات متعددة تشابهت في بعض الأوجه واختلفت في أوجه أخرى. فكل صحيفة كانت تضيف معلومات وتهمل أخرى، ثم تأتي صحيفة أخرى فتكشف عن زوايا وتسقط أخرى. وحتى الآن لا يعرف الصحيح من الخطأ.
السيناريوهات التي أعلن عنها تتميز بعدم الدقة وتخلط الشائعات بالمعلومات وأحيانا تضيف الرغبات والتحليلات على التوثيق. هذا ما جعل الإدارة السورية ترد على ما تروجه الصحافة الإسرائيلية بالنفي أو الإهمال. كذلك فعلت الحكومة الإسرائيلية إذ أهملت أحيانا الرد وأحيانا ردت بالنفي أو اتهام كتبة التقارير بالمبالغة أو تضخيم المعلومات أو عدم دقتها.
السيناريوهات المنشورة تحتاج فعلا إلى مراجعة وغربلة حتى تتضح معالم الصورة. بعض التقارير تتحدث عن دور أميركي في التشجيع على الاتصال وبعضها يشير إلى دور أميركي في إحباط التوصل إلى تفاهم. والبعض يؤشر إلى دور أوروبي في الإشراف على اللقاءات الدورية وبعضها يختزل الدور الأوروبي بدولة واحدة أو دولتين وأحيانا ينسب الموضوع إلى وسطاء محايدين أو وزراء سابقين بادروا إلى اتخاذ خطوات شخصية وتحملوا النفقات والمسئولية من دون استئذان أو تكليف من وسيط مهم أو طرف دولي صاحب تأثير على معادلة الصراع.
هذا التشويش في المعلومات وربط الوقائع بالفرضيات وعدم تعيين المصادر يؤكد على أن التسريبات الصحافية ليست دقيقة وينقصها التوثيق. فكل السيناريوهات نسبت إلى مصادر غير معلومة وشخصيات رفضت الكشف عن اسمها. وهذا أيضا يشير إلى أن كتبة التقارير اعتمدوا على معلومات مبهمة تخلط بين الرغبة الشخصية أو المبادرات الفردية التي تطمح بعض الوجوه الأوروبية على لعبها للبقاء في الصورة أو بغية إنهاء حياتهم السياسية بشيء ما يسجله التاريخ في الذاكرة.
بناء على ما أوردته تقارير الصحافة ماذا يمكن أن نفهم من شظايا الزجاج المحطم؟ هناك أولا التوقيت، وثانيا الأمكنة، وثالثا الأطراف المشاركة، ورابعا جدول الأعمال... وغيرها من تفصيلات.
إشارات متعارضة
بالنسبة إلى التوقيت تحدثت التقارير عن موعدين: الأول مفاوضات حصلت في سويسرا بين العامين 2002 و2003 وتوقفت بعد سقوط بغداد واحتلال العراق. والثاني مفاوضات حصلت أيضا في سويسرا ودولة أخرى بين 2004 و2006 وتوقفت بعد العدوان على لبنان أو خلاله أو بعد وقفه في 14 أغسطس/ آب الماضي.
بالنسبة إلى الأمكنة جرى التركيز على سويسرا كمكان لعقد الجلسات، وسويسرا كإطار للتفاوض، وسويسرا كجهة مساعدة على تأمين اللقاءات من خلال وسطاء وشخصيات ووزراء أو وكلاء وزراء. فسويسرا هي الدولة الراعية لتلك الاجتماعات، ولكنها ليست الوحيدة المتابعة لها. فهناك إلى جانبها جهات أوروبية محايدة لعبت أدوارا متفاوتة في الاتصالات أو حمل الرسائل الشفهية أو نقل الموافقات الرسمية. لذلك أورد كتبة التقارير معلومات غامضة عن أمكنة أخرى عقدت فيها الاجتماعات في أوروبا وخارج أوروبا.
بالنسبة إلى الأطراف المشاركة تعددت الإشارات واختلط فيها الصحيح بالخطأ ولم يعرف إذا كانت الأسماء شاركت أو كانت مطلعة أو على علم رسمي بالمباحثات. وكل ما قيل حتى الآن يدخل في دائرة الغموض ولا يعرف إذا كان الأمر مجرد تأويل أو افتراض أو جس نبض أم هو خطوة ثابتة في استراتيجية واضحة المعالم. مثلا ورد اسم فاروق الشرع ووليد المعلم وسفير سورية في واشنطن أو ممثلها في الأمم المتحدة. وجاء ذكر الأسماء من دون توضيح المفارقات والملابسات والمستوى الذي وصلت إليه المفاوضات ومدى جديتها وتقدمها، وخصوصا حين ذكرت المعلومات اسم وسيط أميركي (سوري الأصل) مليونير تبرع بأن يقوم بهذا الدور. كذلك أوردت التقارير أسماء مجهولة رفضت البوح بأسرارها حتى لا تفسد الوساطات. كذلك تحدثت عن وسطاء من أوروبا ورجال أعمال وخلطت المعلومات بين سياسة رسمية بالتكليف أو تنطح شخصي ومبادرة فردية. وزاد الطين بلة حين خلط كتبة التقارير الصحافية معلوماتهم المنسوبة إلى مصادر مجهولة بتلك الزيارات التي يقوم بها عادة وزراء أو نواب أو وفود أوروبية أو أميركية من الكونغرس إلى دمشق وينقلون وجهات نظر غير رسمية هي أقرب إلى الانطباعات الشخصية وليست بالضرورة تشكل ذاك الرأي النهائي.
بالنسبة إلى النقاط الواردة على جدول الأعمال كشف كتبة التقارير الصحافية عن خلطة عجيبة غريبة لا تعرف مقدماتها من خلاصاتها. فالصحف الإسرائيلية تعمدت ربط النقاط بأسلوب عشوائي إلى درجة بات من الصعب على المتابع فرز الألوان بين ما هو سوري يتصل بالجولان وبحيرة طبريا والقرار الدولي الرقم 242 ثم القرار الدولي الرقم 338. وما هو لبناني يتصل بالقرار الدولي 1701، وما هو فلسطيني يتصل باتفاقات أوسلو وتوابعها وصولا إلى خريطة الطريق، وما هو عراقي، وأخيرا ما هو إيراني. فهذا الخلط بين الأصول والفروع أنتج ما يشبه سلسلة من جداول الأعمال التي تشير إلى كل القضايا دفعة واحدة من دون انتباه إلى أهمية وجود «نظام أولويات» في أي مفاوضات أو مباحثات. فالخلط بين أصل المشكلة وما تفرع عنها يوضح مقدار الغموض في المعلومات وعدم جدية المطروح أو ما تزعم الصحف الإسرائيلية أنه مجموعة حقائق نهائية أو صياغات شبه رسمية تم التوصل إليها ثم أسقطت بالضربة القاضية بعد تدخل واشنطن المباشر أو من خلال الإيعاز لحكومة إيهود أولمرت برفضها.
هناك الكثير من التفصيلات التي دخلت على مزاعم كتبة التقارير الإسرائيلية. فهي تحدثت عن خلافات في وجهات النظر بين المجموعات الحزبية الصهيونية، وتحدثت أيضا عن موافقات إسرائيلية ورفض الإدارة الأميركية لتلك المفاوضات، وتحدث بعضهم عن سلبية ظهرت من الحكومات الإسرائيلية سواء في عهد ارييل شارون أو في عهد رئيس الحكومة الحالي. إلا أن الملفت للنظر في تلك التقارير المشوشة هو التوقيت. فالمفاوضات الأولى حصلت خلال فترة الإعداد للحرب على العراق وتوقفت بعد احتلال بغداد. والثانية حصلت خلال فترة الإعداد للحرب على لبنان وتوقفت بعد تحطيم بلاد الأرز. والإصرار على هذا التوقيت يكشف عن وجود هدف ضمني من وراء إثارة هكذا معلومات مشوشة وهو إحراج القوى الحليفة لدمشق في طهران أو العراق أو فلسطين أو بيروت. ولعل هذا الهدف يشكل نقطة مهمة في توزيع ونشر معلومات غير واضحة المصادر عن اتصالات تعقد إلى فترة ثم تنهار بعد فترة. وبين العقد والانهيار تحصل الحرب أو تسقط عاصمة أو تتدمر دولة. ومعنى الكلام أن هناك إشارة للتخويف أو التهويل من مفاوضات أخرى قد تؤدي بدورها إلى وقوع حرب أو سقوط عاصمة أو تدمير دولة. فهل ما تروج له الصحافة الإسرائيلية مجرد معلومات للتشويش أم معلومات مغشوشة تريد حجب المشهد؟ من يدري.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1599 - الأحد 21 يناير 2007م الموافق 02 محرم 1428هـ