الإيقاع اليتيم لا يصنع سمفونية، والرتم الواحد لا يصنع تمازجا واندغاما. التنوع والتعدّد في الايقاعات والألحان صنع - ويصنع - ما يترك المرء سابحا في أجواء وطقوس ومناخات تتجاوز الأسطورة والمعجز بمراحل.
الإنجاز الإنساني بمجمله لم يتحقق بتصدّي جماعة أو أفراد لتحقيقه، بل تحقق بتظافر المخيّلات البشرية وما ينتج عنها من مبادرات وطرائق وأساليب خلاّقة حققت للجنس البشري ما تحقق، على رغم ما شاب تلك المبادرات والطرائق والأساليب من انحراف عن الهدف النبيل والسامي الذي من المفترض أنه وُجد من أجله.
والذين ظلوا ينظّرون لعقود بأحقية سيادة شكل واحد، ونمط واحد اكتشفوا أنهم يمضون في الطريق المضادة للفطرة الإنسانية، ويمضون في طريق الحجّر على جمالية التعدّد وقدرته على الكشف عن الكامن والمؤجل والمسكوت عنه. كل دعوة إلى الشكل والنمط الواحد، دعوة لإرجاع الإنسان إلى إيقاعه الأول والوحيد: البدائية، والعزلة، والتكرار، وإعادة الانتاج، وذلك هو ما تعانيه مرحلة من المفترض أن تكون من أهم المراحل التي تم تجاوزها في تكريس الشكل والنمط والإيقاع.
ما يحدث اليوم في راهن الانتاج الابداعي العربي يذكّر بالسلوك والممارسة الأولى والبدائية. حروب تشن هنا وهناك على كل محاولات الخروج على الوصاية. سواء وصاية الشكل والنمط، ومن ثم وصاية التاريخ، أو وصاية المكان والجغرافية التي تفرض في كثير من الأحيان أنماطها وأشكالها وشروطها، بحيث يصار إلى تأبيد المستقر في ذلك التاريخ، ما يستدعي ويستلزم العمل على إقراره أيضا في ذاكرة المكان. كما انه هو النمط والشكل ذاته الذي تفتقت عنه ذهنية أحد السلاطين في بدايات القرن الماضي في أحد مراسيمه التي لا تحتاج إلى أن يضيّع أي باحث وقته في تشريحها وتفكيكها لأنها تعبّر عن ذهنية وعقلية ما زالت قائمة ومستقرة:
«لبس الحذاء ممنوع. الخروج إلى الشوارع بعد الغروب من دون فانوس ممنوع. التجوّل مساء ممنوع. التدخين ممنوع. القراءة ممنوعة. التدخل في السياسة ممنوع. بناء المستشفيات ممنوع. استعمال النظارات الطبية والشمسية ممنوع. دخول الصحف ممنوع. بناء المدارس ممنوع. استخدام التيار الكهربائي ممنوع. سماع الموسيقى ممنوع. مسك القلم خطيئة دينية. بناء منزل أو امتلاك راديو أو دراجة نارية أو شراء علبة متوسطة من السمن الحيواني، أو صيد الأسماك لا يتم إلا بإذن خطيّ».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1599 - الأحد 21 يناير 2007م الموافق 02 محرم 1428هـ