الساحة العراقية بمثابة مسرح يُمثل الكثير من التناقضات الكامنة في المجتمعات العربية الهشة من ناحية المواطنة. الأنظمة القابضة على الحكم في الدول العربية لم تتخذ أية سياسة تمهد إلى تهيئة الظروف الموضوعية أو تنمية الشعور الوطني وترسيخ الوعي بأسس المواطنة، أي بقول آخر: اتجاه الولاء للدولة كمنظومة قيم ومبادئ متكاملة؛ وإنما مارست الدول العربية سياسة هي على النقيض من ذلك؛ إذ كرست الولاء للقبيلة والطائفة والعرق أو الحزب الواحد أو أية عصبيات أخرى... بالطبع، لا ندعو إلى إقصاء الدين الإسلامي، إلا أن المجال واسع لعلماء الدين المسلمين بمختلف طوائفهم لكي يتخذوا خطوات إيجابية ناحية مواثيق شرف وفتاوى ملزمة للمنتمين لطوائفهم تلزمهم باحترام حق الآخرين في الاختلاف والتعايش السلمي والحفاظ على السلم الاجتماعي العام. العبر كثيرة على مر التاريخ عن انهيار الأمم والحضارات، ودويلات الطوائف لازالت ماثلة أمامنا كأنموذج لذلك.
سقطت الأندلس وأصبح المسلمون في حال من التشرذم والانقسام والاحتراب، الأمر الذي مكن المستعمرين على مر التاريخ الدخول من هذه البوابة لاختراق وخلخلة المجتمعات الإسلامية. ليس من المنطق الدعوة إلى قطرنة وتجزئة المجتمع العربي (البحرين للبحرينيين والعراق للعراقيين وفلسطين للفلسطينيين، وهكذا دواليك...) إذ نحن أمة عربية واحدة وإن فرقتنا مخططات وسيناريوهات بدأت من قديم الزمان وصولا إلى سايكس بيكو، أو في العهد الحاضر متمثلة في سياسات الإدارة الأميركية بعد احتلال العراق... جاءت تلك المؤامرات بالتواطؤ والترافق مع تكريس الولاءات (القبيلة، الطائفة، العرق، أو الحزب الواحد) للطبقات الحاكمة والسلط السياسية التي شددت من قبضتها وأزرت شوكتها القوى الاستعمارية المتتالية على المنطقة العربية. إلا أنه ليس من الحكمة استيراد مشكلات العراق الغارق - مع الأسف - في النزاعات الطائفية والعشائرية وإسقاطها على بقية الأقطار العربية التي تنعم بالسلم الاجتماعي والأهلي العام.
إذا، المطلوب أن نكون مساهمين في وضع الحلول المناسبة لأهلنا في العراق؛ وإما أن نصمت! التخلي عن العراق وفلسطين ولبنان والأردن وسوريا ومصر وغيرها من أقطار عربية وتركها وحدها في مواجهة الأخطار الدولية والإقليمية هو خطأ استراتيجي لا ينبغي الدعوة إليه من قبل المثقف العربي والمسلم... ولكن هناك فرق كبير بين التخلي عن أهلنا العرب والتدخل لصالح طرف أو لترجيح كفة على أخرى. وعودا على بدء، فإن مثال العراق الذي يئن من هذا الاقتتال الطائفي والعشائري، يستوجب على المثقفين والمنظرين العرب وضع الدراسات والأبحاث التي تُمهد الأرضية المناسبة لخلق روح المواطنة لدى الأنظمة العربية والأفراد في المجتمعات. وليس تأليه وتقديس هذا النظام أو ذاك الرئيس. فالأصل أن شرعية الحكم مستمدة من عدالته مع الأفراد الذين يحكمهم ويسوس أمورهم. وكلما كان نظام الدولة أقرب للعدل والحرية والمساواة بين المواطنين كلما كانت شرعيته مستقرة في نفوس المواطنين والعكس يأتي بالنتيجة معكوسة تماما. إذا؛ المواطنة هي حجر الزاوية في الحفاظ على استقرار أنظمة الحكم في الدول العربية.
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1597 - الجمعة 19 يناير 2007م الموافق 29 ذي الحجة 1427هـ