على امتداد يومين كاملين التقت قيادات من القطاعين الخاص والعام في قطر والبحرين لدراسة إمكانات التنسيق والتعاون، واستقراء الفرص الاستثمارية المتاحة أمامهما في مجالات مختلفة من العمل المشترك والاستثمار. ليس هناك من يجادل في أهمية مثل هذه اللقاءات الأخوية التي تفتح المجالات واسعة أمام أشكال كثيرة من التنسيق إن لم يكن التعاون. وليس هناك من بوسعه أن يشكك في جدوى المشروعات التي أعلن عنها مصرفية كأنت أم عقارية طويلة المدى أم تلك ذات المدى المتوسطة. جميع تلك المشروعات من شأنها، متى ما كرس لها الوقت المطلوب والبيئة الصالحة ان تعطي ثمارها التي ستعود على البلدين وشعبيهما بالخير والبركة. بل انه، وفي أسوأ الظروف، ولو افترضنا جدلا ان لم يتمخض عن هذا اللقاء الأول أية مشروعات ملموسة، تبقى هناك الحاجة ملحة للقاءات من هذا النوع لكونها، في أسوأ الحالات، تنسج علاقات مثمرة مختلفة حتى عن تلك التي من أجلها تمت الدعوة للقاء.
لكن، وكما يقول المثل، فإن رحلات الألف الميل دائما بحاجة إلى الخطوات الأولى، وأن الخطوات الأولى تلك التي يراد لها أن تكون صحيحة وثابتة وقادرة على قطع الألف ميل من دون إنحراف أو تراجع غير مبرر، وأن تصل إلى أهداف المشوار الطويل النهائية لابد لها أن تركز على أكثر حاجات تلك الدول إلحاحا، وأوفرها نصيبا من النجاح. تحديد معالم نقطة انطلاق- من وجهة نظرنا المتواضعة- ولو على نحو عام من دون الدخول في التفاصيل الضرورية في مراحل متقدمة لاحقة، مسألة في غاية الأهمية.
وفي اعتقادنا المتواضع أيضا، فإن أكثر احتياجات البحرين إلحاحا، وفي هذه المرحلة، هي خلق فرص عمل مناسبة للكفاءات البحرينية الماهرة. وأنا هنا لا أناقش موضوع البطالة أو اقتراح حلول لها، بقدر ما أسلط الضوء على مدخل صحيح لإتاحة فرص عمل أمام كفاءات تبحث- جادة- عن تلك الفرص.
هذا من الجانب البحريني، أما من الزاوية القطرية، فإن منطق الوضع القائم يقول ان ازدياد السيولة المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط وزيادة إنتاج الغاز لتلبية احتياجات الأسواق العالمية، وضعت في أيدي الإخوة القطريين أموالا إضافية تنتظر بلهف أية فرصة استثمارية واعدة.
وإذا استعرضنا أهم المشروعات التي تمخض عنها ذلك اللقاء المكثف، سنجدها تتمحور حول القطاع المالي، وبشكل أكثر تحديدا القطاع المصرفي. فأكبر مشروع بين المشروعات التي ستبلغ قيمتها 760 مليون دولار ، كان إتفاق الجانبين على تأسيس مصرف قطري - بحريني برأسمال قدره 500 مليون دولار. أي أن حصة المصرف ستبلغ نحو 66 في المئة من إجمالي قيمة المشروعات المشتركة التي تمخض عنها ذلك اللقاء.
وبغض النظر، وسواء كانت هذه النسبة مبنية على الحس الفطري للمشاركين في اللقاء أم أنها كانت مبنية على دراسات معمقة، فواقع الحال يقول أنها أصابت كبد الحقيقة.
فعلى المستوى البحريني تلبي متطلبات هذا القرار العوامل الآتية:
1. البنية التحتية لصناعة مصرفية: تمتلك البحرين بنية تحتية متطورة لتسيير دفة صناعة مصرفية عصرية، سواء كان ذلك على مستوى الإتصالات أو المواصلات. وقد ساهم تحرير سوق الإتصالات البحرينية ودخول لاعبين جدد إلى جانب شركة بتلكو في تطوير البنية التحتية القائمة بما فيها تلك التي تملكها بتلكو. ويمكن القول ان البحرين تمتلك اليوم بنية إتصالات جيدة بالمعايير العالمية بحاجة إلى من يحسن إستخدامها أولا ويطور الخدمات التي بالوسع توفيرها ثانيا.
2. البنية الفوقية لخدمات مصرفية: يمارس عدد لابأس به من المصارف المحلية والعالمية أعماله منذ فترة طويلة في البحرين، الأمر الذي تطلب وضع قوانين ولوائح متطورة تضمن تسيير تلك الخدمات وبمستوى دولي يتناول أمورا كثيرة مثل غسيل الأموال، ومرا قبة حركتها ومتابعة القنوات التي تسلكها. وكان من نتائج الحرب الأهلية اللبنانية نزوح عدد لابأس به من المؤسسات المالية المصرفية من بيروت إلى المنامة الأمر الذي عزز من مكانة البحرين في قطاع الخدمات المالية وأكسبها خبرة غنية في المجال ذاته.
3. الموارد البشرية: تراكمت على مدى الثلاثين السنة الماضية خبرات غنية إكتسبتها الموارد البشرية البحرينية من خلال إنخراطها في المؤسسات المالية البحرينية أو الإقليمية أو حتى العالمية التي قدمت إلى البحرين. وبتنا نرى البعض من تلك الخبرات يتبوأ مناصب متقدمة تقع في أعلى السلم الإداري في مؤسسات مصرفية عالمية ويديرها بكفاءة عالية تشهد له بها الخدمات التي توفرها تلك المؤسسات أو النتائج السنوية المعلنة عن أدائها.
4. المؤسسات الداعمة: تتوافر في البحرين مجموعة من المؤسسات الداعمة للصناعة المصرفية، ومن بين أهمها مؤسسات التدريب والتاهيل. وبالإضافة إلى الدورات التأهيلية الداخلية التي تقوم بها بعض المؤسسات المصرفية، هناك بعض المعاهد المتخصصة في الدراسات المالية والمصرفية ومن بين أهمها مركز البحرين للدراسات المصرفية والمالية (BIBF) الذي بوسعه أن يمد المؤسسات القائمة وتلك المزمع إقامتها بالكفاءات المحلية المؤهلة والمناسبة وفقا لاحتياجاتها.
5. خدمات الدول المجاورة: مازالت البحرين تحتل موقعا إستراتيجا مهما في منطقة الخليج العربي. تكفي الإشارة إلى قربها من المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، بسوقها الكبير والمتنامي. ومن الطبيعي أن أي مشروع ضخم يأخذ من البحرين مقرا له، لابد وأن تتجه انظاره نحو المنطقة الشرقية اذ تقوم مؤسسات وشركات عملاقة - بالمعيار المحلي- مثل أرامكو وسابك وحديد.
وعلى المستوى القطري:
1. الرأس مال النقدي: تراكمت في قطر في القطاعين الخاص والعام سيولة نقدية من جراء - كما ذكرنا سابقا- الزيادة الأخيرة في أسعار النفط، من جهة، ولزيادة حاجة السوق للغاز الطبيعي التي باتت قطر تمتلك أكبر حقوله المكتشفة، ومن بين أكثر الدول إنتاجا له وتصديرا في أسواقه من جهة ثانية. هذه السيولة النقدية القطرية من الطبيعي - في ضوء الاتفاق الأخير- أن تعطي السوق البحرينية بعض التميز عند توجيه تلك السيولة نحو أسواق الإستثمار.
2. المشروعات القطرية: والحديث هنا يشمل المشروعات القائمة وتلك التي قيد التنفيذ، والتي بوسع البحرين أن تستفيد منها إما عبر مواردها البشرية أو عن طريق سيولتها النقدية. نذكر هنا مشروعات من نمط مدينة الطاقة أو الدرة في قطر. والمقصود هنا أن تفتح قطر أبوابها أمام الأموال البحرينية من جهة وأمام الكفاءات البشرية البحرينية من جهة ثانية.
3. الثقل العالمي الإستثماري: تمتلك قطر في الوقت الراهن علاقات مالية وإستثمارية دولية يمكن متى ما وظفت، على نحو يأخذ في الحسبان التعاون مع الرأسمال البحريني، أن يعطي قطر بُعدا جديدا أولا، ويوسع من دائرة الإستثمار البحريني ثانيا، ويعزز العلاقات الثنائية ثالثا، وليس أخيرا.
هناك بعض الأمور، التي قد تبدو أنها ليست ذات أهمية، لكن من الضرورة بمكان دراستها في هذه المرحلة المبكرة من مراحل الإتفاق. تلك هي الأمور التي يمكن أن نقول عنها أنها تقع في المناطق الرمادية والتي ربما تشكل مواقع تنافسية أكثر منها مناطق تكاملية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر مرفأ البحرين المالي، ومركز قطر المالي فمن الطبيعي أن تكون هناك بعض أشكال التنافس بين الخدمات التي ستقدمهما المؤسستان. ليس المطلوب هنا القضاء على كل أشكال التنافس الممكنة. فالتنافس مطلوب حتى في نطاق الدولة الواحدة ذاتها، فما بلك بين دولتين. المطلوب هنا تلمس مناطق التكامل وتعزيزها.
وإلى نرى بعضا من تلك المشروعات قيد التنفيذ لابد من توجيه الشكر لكل من رأى أهمية مثل هذا اللقاء أو عمل من أجل تحويله إلى حقيقة قائمة. ولا يمكن ان ننسى هنا الدور المميز الذي مارسته غرفة تجارة وصناعة البحرين، والتي نأمل أن تواصل مثل هذه الجهود مع دول خليجية أخرى.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1597 - الجمعة 19 يناير 2007م الموافق 29 ذي الحجة 1427هـ