العدد 1597 - الجمعة 19 يناير 2007م الموافق 29 ذي الحجة 1427هـ

أبعد من استقالة حالوتس

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في أي إطار يمكن ان نضع موضوع استقالة دان حالوتس من رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي؟. هناك قراءات مختلفة. وكل قراءة تنظر الى المسألة من رأي سياسي يتحكم في تفصيلات المجرى الميداني لما حصل والاحتمالات الممكن ان تحصل في المستقبل.

هناك أكثر من قراءة لاستقالة حالوتس. البعض يعتبرها انها بداية أزمة عميقة ستهز الكيان وستدفع بالهيئات السياسية والعسكرية الى التراجع وإعادة النظر باستراتيجيتها العامة في التعامل مع المستجدات الفلسطينية واللبنانية. البعض يعتبرها خطوة تهدف الى احتواء آثار الصدمة العسكرية ولن تعقبها خطوات اخرى. والبعض يعتبرها خطوة أولى ستمهد الطريق الى خطوات لاحقة ستطال رئيس الحكومة ووزير الدفاع وقيادات اخرى في المجالين العسكري والسياسي. والبعض يعتبرها انها تهدف الى التضحية برأس لحماية الرؤوس الأخرى وابعاد المسئولية السياسية عنها. والبعض يعتبرها خطوة الى الوراء ستعقبها خطوات الى الأمام وربما سيتم استبداله بوجه أكثر حنكة وخبرة ويملك قدرات تسعفه على ابتكار آليات تساعد الجيش على الخروج من المأزق في حال تكررت التجربة الميدانية.

اختلاف القراءات في تعيين الهدف من وراء استقالة حالوتس أو طرده من رئاسة الأركان يؤكد فعلا وجود أزمة بنيوية تعصف بأهم مؤسسة يعتمد عليها الكيان الصهيوني. فهذه الدولة قامت اصلا على الحرب والعدوان والاغتصاب وتثبيت الاحتلال من خلال تعزيز عناصر القوة وطرد الناس من ديارهم واستجلاب مستوطنين من مختلف انحاء العالم واسكانهم في الأراضي التي تعود ملكيتها لأهل فلسطين.

المؤسسة العسكرية اذا تعتبر رافعة تاريخية في المنظور الأمني والوجودي والاستراتيجي وهي الهيئة الأهم وربما الأقوى في سلسلة حلقات الدولة العبرية. فالموازنة الحربية تعتبر الأكبر، والمساعدات التي تأتي من الولايات المتحدة تصب في معظمها في دائرة تعزيز القوة الإسرائيلية، والانفاق على الدفاع يعتبر في «إسرائيل» هو الأعلى في العالم بعد أميركا في حال اخذت المساحة الجغرافية والتعداد السكاني في الاعتبار. وكل هذه الاعتبارات جعلت من الجيش الإسرائيلي الطرف الأقوى في معادلة الكيان الداخلية ومن دونه لا مستقبل لهذه الدولة في المنطقة العربية/ الإسلامية.

الجيش اذا في الكيان الإسرائيلي يمثل حاجة يومية والانفاق عليه يشكل نقطة اجماع لدى جمهور الاحزاب والدولة. ولهذه الاعتبارات انصب الاهتمام التقليدي على تعزيز قدراته وتحول مع الأيام الى مؤسسة إنتاجية ترفد الاقتصاد الإسرائيلي بموارد مالية يعاد توظيفها في تطوير التقنيات الحربية وتوسيع الترسانة العسكرية.

تحول الجيش الإسرائيلي من نحو العقدين الى مؤسسة منتجة وبات القطاع العسكري يشكل نقطة قوة في توازن الاقتصاد الذي اخذ يعتمد في السنوات الماضية على الصادرات والمبيعات والصفقات التي تبرمها الدولة مع دول العالم الثالث وحتى الدول الصناعية الكبرى. وليس سرا القول ان هناك الكثير من التقنيات العسكرية الإسرائيلية تعتمد عليها الدولة في صادراتها لتمويل المؤسسة وحاجتها الى أموال ومواد أولية لتطوير صناعاتها واستثماراتها في هذا القطاع. وكذلك ليس سرا القول ان الصين والهند وحتى الولايات المتحدة تستورد الكثير من الاسلحة النوعية التي تنتجها التقنيات الإسرائيلية من صواريخ موجهة وأجهزة اتصالات وتنصت ومراقبة أو طائرات تجسس من دون طيار. كذلك هناك بعض الدول في اوروبا والعالم الثالث باتت تستورد السلاح من «إسرائيل» أو تعتمد عليها في مجالات الصيانة وتبديل قطع الغيار أو تحديث الأجهزة والطائرات والدبابات والمدفعية.

قطاع إنتاج حربي

كل هذا يعني أن القطاع العسكري الإسرائيلي انتقل في العقدين الماضيين من هيئة تستهلك الجزء الأكبر من الموازنة الى مؤسسة إنتاجية تصدر الاسلحة من خلال ابرام صفقات ضخمة وبالتالي تحولت الى مورد مالي للدولة يؤمن احتياجات الجيش من رساميل استثمارية يعاد توظيفها لتطوير التقنيات العسكرية. وهذا الأمر أسهم في تعديل حلقات الإنتاج في الاقتصاد الإسرائيلي منذ ثمانينات القرن الماضي. فبعد ان كانت تل ابيب تستورد حاجاتها من الاسلحة من أميركا ودول الغرب وتتكل عليها كليا لسد النقص باتت الآن تصدر انواعا من الاسلحة والتقنيات وتقوم بعمليات تدوير للانفاق، فهي تبيع كمية وتشتري كمية حتى كاد ان يتوازن ماهو مستورد مع ماهو مصدر الى السوق الدولية.

ماحصل اذا في «إسرائيل» خلال حرب العدوان على لبنان ليس بسيطا في حال تمت القراءة من كل الزوايا. فالحرب التي انتهت ميدانيا الى الفشل احبطت الكثير من الطموحات الاستعراضية حين تقصدت رئاسة الأركان اظهار التفوق الجوي المعطوف على تفوق ميداني تقوده دبابات «ميركافا 4» بغية تحويل المسألة الى مادة تجارية تعزز ميزان الصادرات العسكرية وتزيد من نسبة الأرباح وتقلل من حاجة السوق الإسرائيلية الى الاستيراد.

ما حصل يعاكس كل تلك الطموحات. فالفشل الميداني احبط الطموحات وادى الى إلغاء بعض الدول صفقات مبرمة أو صفقات كانت تنوي إبرامها، وهذا بحد ذاته يعتبر ضربة للمؤسسة العسكرية بصفتها هيئة إنتاجية تؤمن الموارد المالية للدولة. كذلك اسهم الفشل في زيادة اتكال الجيش على آلة الحرب الأميركية وترسانتها ومستودعاتها المنتشرة في أوروبا و»الشرق الأوسط». فتل ابيب اكتشفت خلال الحرب انها افرغت كل ما تملكه من قنابل تقليدية ونوعية في عدوانها وباتت بحاجة أكبر إلى الدعم الأميركي لتعويض خسائرها أو لسد ذاك النقص الذي ظهر في احتياطها الاستراتيجي.

كل هذه العوامل يمكن اخذها في الاعتبار لتحليل تلك الازمة التي عصفت برئاسة الاركان. فالازمة كبيرة وتتعدى حالوتس لانها تشمل المؤسسة ليس بصفتها قوة عسكرية تدافع وتهاجم وتحتل وانما أيضا بصفتها قوة منتجة ترفد الاقتصاد الإسرائيلي بالرساميل التي تحتاجها الدولة لتوظيفها في هذا القطاع الذي تحول إلى مصدر رئيسي للحركة التجارية مع السوق الدولية. فالقطاع العسكري الإسرائيلي هو قطاع إنتاجي/ تجاري ويعتبر الآن الحلقة الاقوى في سلسلة الحلقات الاقتصادية التي تعتمد عليها الدولة. فـ»إسرائيل» في الخمسينات والستينات والسبعينات كانت تعتمد على الخدمات والزراعة والمصارف والسياحة والاتجار بالأحجار النفيسة (الألماس) إضافة إلى المعونات والمساعدات الألمانية والأميركية. الآن ومنذ الثمانينات والتسعينات بدأ الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد على القطاع العسكري وتصدير السلاح واخذ يحتل الموقع المركزي في الإنتاج ويدر الدخل المالي بشكل متفوق على الخدمات والسياحة والزراعة وتجارة الألماس. وبيانات الاستيراد والتصدير التي صدرت عن تل ابيب في السنوات العشر الأخيرة تكشف احتلال القطاع العسكري (الهيئات المنتجة) الموقع الأول في حلقات الإنتاج. وهذا الأمر يعني ان الاقتصاد الإسرائيلي تحول في العقد الأخير إلى اقتصاد حربي يعتمد على المورد العسكري في تحقيق التوازن المالي والاستقرار الداخلي.

المسألة إذا كبيرة في حال تمت قراءة مدلولاتها السياسية من منظار أوسع. وبناء على هذا القياس العسكري/ الاقتصادي يتوقع أن تقوم القيادة السياسية بعملية جراحية كبيرة لإعادة الثقة الدولية بالصناعات الحربية الإسرائيلية. وهذا الأمر كان من الصعب تحقيقه من دون مراجعة لتلــــك الاخطــاء التي جــرت خــلال فترة العــدوان على لبنــان التــي وصــفت بـ «التقصير» ، «الفشل» و«الانتكاسة».

هذه المراجعة يجب أن تدرس بعناية من الجهات العربية واللبنانية التي تهتم بالشئون الاستراتيجية والعسكرية. فالمراجعة ليست بالضرورة بداية نهاية الكيان، أو ان المؤسسة وصلت إلى مأزق لا تستطيع تجاوزه، أو أن تل ابيب باتت في وضع ضعيف وغير قادرة على انتاج البدائل، او ان حكومة اولمرت هي نهاية الدولة ولم يعد بالإمكان تعيين أو توظيف أو استبدال الأهم والأخطر والأشرس من حالوتس.

هذه الخطوة يجب تناولها بحذر والتعامل معها بعقلانية واقعية حتى لا تقع الأطراف اللبنانية والعربية في تحليلات متسرعة واستنتاجات هوائية تقفز فوق الحقائق. فما حصل مهم وخطير وكبير ولكن الأهم والأخطر والأكبر لم يحصل بعد. لذلك يجب أن نقرأ المسألة بهدوء حتى لا نغرق في الاحلام الوردية في وقت تكون تل ابيب بحضور حكومة اولمرت أو من دونها تستعد إلى خوض عدوان جديد يعوض سمعتها العسكرية وينقذ صناعاتها الحربية من الانهيار الاقتصادي والمالي. فالمؤسسة التي تريد تل ابيب انقاذها من الفوضى لم تعد حربية فقط وانما تحولت إلى أهم مورد مالي في البنية الإنتاجية الداخلية وفي بيانات الصادرات إلى السوق الدولية. وهذا يعني أن الدولة ستبذل المستطاع من أجل حماية مؤسستها العسكرية وإعادتها إلى الموقع الذي كانت تحتله قبل العدوان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1597 - الجمعة 19 يناير 2007م الموافق 29 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً