العدد 1597 - الجمعة 19 يناير 2007م الموافق 29 ذي الحجة 1427هـ

قراءة في صور المأساة... الأبعاد البصرية لتوثيق واقعة كربلاء

تمارا الكساندروفنا: لم يولد شكسبير عربيا يجسد «الطف»

تقول المستشرقة السوفياتية تمارا الكساندروفنا في كتابها «ألف عام وعام على المسرح العربي» وبعد اطلاعها على الحوادث الملازمة لقضية الحسين (ع) - ما قبل وما بعد - بوصفها مادة مشبعة بالدراما الحقيقية والتراجيديا، تقول: «ولا يتبقى لنا في النتيجة إلا أن نأسف لعدم ولادة شكسبير عربيا كان باستطاعته تجسيد طباع أبطاله وسلوكهم في الشكل الفني للتراجيديا الدموية. إن في هذه المادة من المؤامرات والقسوة والتعسف والشر ما لا يقل عما كانت عليه في موضوعات عصر حروب الوردة الحمراء والوردة البيضاء، لكن على رغم عدم توافر الأساس الأدبي المتين، فقد أدى مصير الحسين (ع) المأسوي وأدت معركة كربلاء إلى ولادة (التعزية) التي تعتبر من أقدم العروض المسرحية في العالم الإسلامي».

لكن على رغم ما تقدم في رأي الكساندروفنا وطموحها في ظهور نص مسرحي عربي عن واقعة الطف يأخذ شهرته الدرامية مثلما أخذت نصوص شكسبير مكانتها الأدبية، فقد ظهرت نصوص مسرحية وسينمائية عدة استثمرت حوادث واقعة الطف في بنيتها الدرامية ومتنها الحكائي، منها ما أخذ شهرة معقولة في الساحة: مثل «التفاني والإيثار»، «السفير» و»رسول الحسين»... وغيرها.

كلام المستشرقة السوفياتية يذكرنا بمقال للكاتب البحريني جعفر حمزة، إذ كتب يقول: «صور التراجيديا لأية أمة هي المحرك الفعلي لاستمرار التفاعل مع كل القيم التي تحملها المأساة بكل مفرداتها». ويمثل الحدث المأسوي (التراجيدي) الصورة التي تقدم تلك الزاوية المظلمة من الإنسان لأخيه الإنسان ليعيش في ذاته «الشيطنة» التي تحول كل المفردات المحيطة بالإنسان الشيطان إلى أدوات جهنمية تنبع من تفكير أبعد ما يكون عن معنى الوجود الإنساني بكل معانيه.

والتراجيديا هي إحدى السُبُل التي تلامس الإنسانية الكثير من القيم الأساسية الفطرية للإنسان، ضمن حدث وسلسلة حركية تظهر فيها التناقضات في المبادئ بين جبهتين مختلفتين إحداها تمثل القيم النبيلة وأخرى نقيضه لها. وأخذت «واقعة كربلاء» صورا متعددة لحفظ وقائعها، وسرد حوادثها، لتكون أضخم صورة تاريخية لمأساة عاشها الإنسان شعرا وكلمة وصورة وحركة، ونتيجة للوضعية الخاصة التي عاشتها مأساة كربلاء من ناحية الزمان والمكان والشخوص، كان لابد من وجود «مصدر بصري» ينقل تفاصيل تلك المأساة إلى الأمة، فكان النقل الروائي ووجود الشهود من المعسكرين أدوات الرسم الثانوية بعد كلام الرسول الأكرم (ص) عن تلك الواقعة، وتبدأ أول عملية توثيقية بالرسم لواقعة كربلاء وما تلاها من خلال رسم السبايا في الكوفة والشام، وعبر رسم الراهب المسيحي الذي أخذ رأس الإمام الحسين ليبيت عنده ليلة واحدة، بعدما أخذه من جنود بني أمية مقابل مبلغ من المال، وبعدها تتابعت صور التوثيق وسرد المأساة.

ولم تبتعد «صور كربلاء»عن الخصوصية التي تمتعت بها الكثير من البلدان الإسلامية في مرجعيتها «البصرية» من خلال التاريخ الذي تملكه في الرسم وتصوير الحوادث، لتكون مأساة كربلاء الصورة محل إسقاط بصري لبعض المجتمعات الإسلامية من دون غيرها، والملاحظ نوعية الرسومات التي تنقل مأساة كربلاء عبر تصويرات للشخوص الموجودة في الحدث، ونعتقد بأن المجتمع الإيراني هو من أكثر المجتمعات الإسلامية ممارسة لتصوير واقعة كربلاء من خلال اللوحات والرسوم التي تصف شخوص الحدث الكربلائي في أكثر من موقع يستخدم فيه الفن «الفارسي» كهوية مميزة بما يمثله من وسيلة نقل بصرية لهذه الواقعة المأسوية، فهناك إسقاط لسمات الخلفية البصرية للرسم الإيراني على الشخوص الكربلائية، إذ يلحظ في كثير من الرسومات الملامح التي تتميز بها رسومات شخصيات روايات وقصص بلاد فارس القديمة التي تستعرض شخصيات قديمة كمجنون ليلى، والقائد رستم، وغيرها من الشخصيات التي تتخذ ملامح مميزة لها من دون غيرها من رسومات البلدان الأخرى، بل إن لباس المعركة الذي اتخذه العباس (ع) على سبيل المثال، يتميز عبر تلك الرسوم بالتشابه الواضح مع لباس الحروب التي كانت متخذة في العصر الفارسي القديم، ويمكن التأكد من ذلك عبر مراجعة رسوم «الشاهنامة»- وهي ملحمة شعرية تصف بعض مقاطع التاريخ الإيراني - والكثير من الرسومات التاريخية القديمة في المتاحف والكتب.

ومن تلك الملامح لبس الخوذة المصممة بالطريقة الموجودة في الرسوم في عصور فارس القديمة، وكذلك العصر الصفوي، بالإضافة إلى دلالات بصرية أخرى كوضع «الريشة» على الخوذة، وطريقة اللباس عموما، وبقدر ما كان «الإسقاط الرسمي»موجودا - إن صح التعبير - فقد كانت القيم التي تزخر بها معركة كربلاء تتمثل بأجلى صورها في تلك الرسومات، عبر التضحية والصدق والشجاعة من جانب، والوحشية والظلم والدموية من جانب آخر، عبر تمثيل ثنائي لمخيمي الإمام الحسين (ع) وعمر بن سعد، ويمكن ملاحظة ذلك عبر الرسومات التي تحكي المواقف المختلفة في معركة كربلاء، وتحمل معها المشاعر والقيم المتناقضة من قمة الفداء والتضحية إلى قاع الوحشية والظلم. وبحكم «التطور الصوري» الذي يساير عمر المجتمعات، يلحظ وجود الصور متعددة القوالب التي تتناول كربلاء من زوايا مختلفة، فمن وجود الرسومات في الكتب إلى تكبيرها في الحسينيات، وحملها في المواكب العزائية، وقد أخذت النماذج الحديثة مجالا أوسع لتناول مأساة التاريخ ليكون المجتمع لابسا لسواد ملون عبر اللون الأسود التي تتشح به الكثير من المدن والقرى في شهر محرم الحرام في أكثر من بلد في العالم، وبأشكال مختلفة وبطرق متعددة في عرض واقعة الطف، فمن الرسومات التقليدية انتقلت إلى مرحلة تثبيتها في الحسينيات عبر سجاد معلق فيها، أو من خلال ثياب سود تحمل تلك الصور، بل وأصبحت تجارة لها سوقها الرائجة في المجتمعات الشيعية وخصوصا للأطفال، وانسحب التمثيل البصري على كثير من المنتجات اللباسية مثل «القمصان، تي شيرت، القبعات، وشاح الرجل»، بل واتخذ الأمر حيزا أكبر من خلال الميداليات، والملصقات، بل وحتى بعض اللوحات القماشية التي توضع في خلفية السيارات، واتخذت التقنية الحديثة مجالها في ذلك عبر التصميمات في الكمبيوتر، ورسائل الوسائط المتعددة (MMS) عبر الهاتف.

ومع التنوع البصري الذي يتخذ من «كربلاء»ملهما له يضع الرسام ريشته لا لتوثيق «حدث» أكثر منه من تسجيل «موقف» تظهر كل آثاره من خلال الألوان المستخدمة والشخوص المعروضة، لتصبح واقعة كربلاء تسجيلا بصريا متجددا ينطق بكل لغات العالم، ضمن حركة لا تستدعي البحث عن معانٍ أخرى، مازالت تزخر كربلاء بالكثير من القيم التي يحولها الفنان إلى لوحة أو قصيدة أو فيلما.

التنوع الحاصل في عملية «الإسقاط الفني» لواقعة كربلاء والملاحظ في أكثر من بلد، يقدم مؤشرا عن وجود «إلهام» لا ينقطع لحدث تاريخي مر عليه قرابة ألف وعدد من مئات السنين عليها، ونعتقد بأن مثل هذا الحدث هو الأول من نوعه في تاريخ البشرية التي حظيت بتجدد في التوثيق البصري لها، من خلال التفاعل السنوي معها، فعلى رغم وجود مآسٍ متعددة في تاريخ البشرية من العهد القديم والحديث، فإنها توقفت عند انتهائها وأخذت نصيبها من التوثيق والتصوير الفني لها، وتوقف الأمر عند ذلك الحد، ويكفي النظر إلى جميع مراحل ومحاولات التوثيق البصري لأكثر من مأساة عاشتها البشرية قديما وحديثا، إذ تتوقف الأقلام وتجف الألوان في فرشاة الرسام، لتكون اللوحات الفنية سواء رسومات، قصائد أو تشبيه للواقعة محدودة، فيما يلاحظ الباحث الموضوعي تجدد «التفاعل» مع واقعة كربلاء من خلال وسائل متعددة للفن، كلاميا وبصريا عبر الرسومات وما تُسمّى بالشبيهات، إذ تُمثل الواقعة في الهواء الطلق. وتمثل واقعة الطف زخما بصريا وإعلاميا قويا مازالت المجتمعات المؤمنة بالحرية والعدالة تقتبس منها وتستلهم، وتأخذ صور المأساة كل مساحة التفاعل الإيجابي بين التاريخ والحاضر عبر سلسة من الصور والرسوم التي تحمل معها التاريخ في قيمه ومبادئه، ومازالت تشكل واقعة الطف ملهمة البصر والنظر، ولا أدل على ذلك من إبداعات متجددة وتطور في تناول تلك الواقعة عبر قنوات متعددة، وتبقى مأساة الصورة بمأساة القيمة التي نُحرت على حجر نكران القيم الإنسانية الأصيلة، وتبقى قوة الثبات على الحق بثبات الاستفادة من الصورة (المأساة) في نشر القيم الأصيلة لواقعة الطف.

العدد 1597 - الجمعة 19 يناير 2007م الموافق 29 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً