قبل ثلاث سنوات، أجريتُ مقابلة مع واحدٍ من أقدم «الرواديد» (المنشدين) في المواكب الحسينية، تطرّق فيها إلى ذكرياته مع الخطيب العراقي الشهير السيد جابر، وكيف تعرض جلسه في آخر سنة له في البحرين (مطلع الثمانينات) لهجومٍ بالغازات المسيلة للدموع، بعد أن هاجمت قوات مكافحة الشغب منطقة قلب المنامة الشعبية، فكان الناس يغلقون أبواب المأتم تجنبا للغازات «العطرة»!
طبعا لم تكن مهاجمة المآتم والمساجد من أخلاق أهل البحرين قبل عقود؛ ولذلك استدعى تنفيذ تلك «المهمات الخاصة» حملات تمهّد لها «فرق سرية»، يسمونهم الناس «السوس»، بتوزيع الاتهامات على خلق الله الآمنين! أما «سوس» هذه الأيام فيحاول أن يعيد اللعبة من جديد، بسَوق اتهاماتٍ موجّهةٍ هذه المرة ليس إلى الأشخاص الأبرياء، وإنما إلى المآتم كمبانٍ ومؤسسات!
قائدة هذه الحملة المحققة (كونان) طنبورة هانم، دشّنت عملها بـ «محاضرة» قالت فيها: «إن المآتم تستخدم لتخزين الأسلحة»! ولأن هذه «الشلخة» لا تمر حتى من باب البحرين، أرادت أن تثبت شلختها، وهكذا خرجت مساء أمس إلى قلب المنامة لإجراء تحقيق ميداني!
الهانم تسلّلت متخفية تحت جنح الظلام، كما كان يتسلل «السوس» أيام زمان، مرتدية نقابا كيلا يعرفها الناس! ولأنها دخلت من جهة الكنيسة كانت البداية بالقرب من مأتم الحساوية، إذ وجدت طاولة كبيرة نصبت عليها حاويةٌ زرقاء أعدت لتوزيع الماء، فقالت لنفسها: «صدناهم! هذه حاوية لعمل خلطات لتصنيع الأسلحة الكيماوية»! إلى جانبها طاولة أصغر فوقها (غواري) شاي وقهوة، فواصلت استنتاجاتها: «هذه أكيد معامل لتصنيع غاز الخردل»!
تقدّمت 200 متر إلى الداخل، فرأت عشّة خشبية، لُصِقَت فيها لوحات فنية ورسومات، فصاحت من تحت «الغشواية»: «صدناهم! هذه أكيد خرائط للمواقع الاستراتيجية التي يريدون تفجيرها... ألم أقل لهم إنها مخططات رهيبة؟»! بعد 150 مترا، وعند «لفّة» مأتم العجم، شاهدت من بعيد لافتاتٍ قماشية معلقة على عرض الشارع، فصاحت مبتهجة: «صدناهم، أكيد هذه هوائيات لالتقاط الإشارات اللاسلكية وتوجيه الصواريخ البالستية التي يخزّنونها في المآتم»! بعد 100 متر، بعد أن تخطّت مأتم زبر، شاهدت خيمة صغيرة، يقف أمامها ثلاثة شبان، فأخذت تفرك يديها وقالت وهي تصر على أسنانها: « هذا أكيد مركز القيادة! قيادة الكتائب العسكرية لقتل الناس في الشوارع! هذا لا يمكن السكوت عليه»!
قبل الوصول إلى مأتم مدن، انتبهت إلى وجود حسينية صغيرة للنساء، فقالت تخاطب نفسها: «دعني أدخل لأرى! أكيد فيه شيء خطير يخطّطون له في هذا (الداعوس)»! دخلت «الداعوس»، ولمّا وصلت باب الحسينية، سمعت صوتا غريبا. صوتٌ قريبٌ من صوت السيارة، لكن لا توجد سيارة. صوتٌ أقرب لصوت قرقرة الشيشة! رفعت طرفا من النقاب الذي يمنع عنها الرؤية، لكن سرعان ما أنزلته؛ لأنها كانت خائفة من الانكشاف، فهي كاتبةٌ مشهورةٌ، ومفكّرةٌ عظيمةٌ، والناس يقرأون موضوعاتها الفنتازية ويرون صورتها. يكفي أن «التنبل بزرك» معجبٌ بها وشهد لها بأنها كاتبةٌ عبقرية!
قبل أن تخرج من الحسينية النسائية، كان لابد من أن تتوصل إلى نتيجة تؤكد نظريتها، فقالت تخاطب نفسها: «ليس سيارة ولا شيشة ولا يمكن أن يكون (قدو)، هذه منصة إطلاق صواريخ كاتيوشا»! عندما وصلت إلى مأتم مدن والقصاب ومسجد الخواجة، أسرعت في خطاها؛ للخروج من المنطقة، فهي قد جمعت ما يكفي من الأدلة الدامغة لتثبت تخزين الأسلحة! وخرجت مباشرة إلى مبنى الصحيفة الليبرالية لتكتب تحقيقا مصوّرا... وشوهدت وهي تضحك ضحكة هستيرية كأن أحدا يدغدغها في بطنها، وهي تردّد: «صدناهم... صواريخ، مخازن، صدّومي حبيبي، منصات، كاتيوشا، تنابل، طنابير... »!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1596 - الخميس 18 يناير 2007م الموافق 28 ذي الحجة 1427هـ