إن حال الاحتقان المذهبي التي بدأت تفرز احتقانا سياسيا في العالم الإسلامي، تمثّل، إضافة إلى ما أحدثته وتحدثه من كوارث على الساحة العراقية، التي عمل المحتل الأميركي على تشجيعها ولايزال ينفخ ببوقها، واحدة من الابتلاءات الكبرى التي تصيب الأمة برمّتها وتهدد مصيرها، وهي المسألة التي يركز المستكبران الأميركي والصهيوني على استغلالها إلى أبعد الحدود؛ للانقضاض على الإسلام كله وضرب كيان الإسلام الفكري من جذوره، وليس للسيطرة على بلاد العرب والمسلمين فحسب.
إن هذا الانسياق الأعمى في الكثير من ساحاتنا العربية والإسلامية نحو المذهبية بمعناها العشائري الذي يتمثّل في استجابة الجماعة أو غالبية أفرادها لنداء التفرقة عندما يضرب الطبل المذهبي هنا أو هناك، الذي ينطلق من تخلفنا ومن أننا لم نتربَّ إسلاميا لنعترف بأن هناك في الوسط الإسلامي فريقا آخرَ أو فرقاء آخرين لا يفكرون كما نفكر أو لا ينطلقون من القواعد نفسها التي ننطلق منها، وبالتالي قد تأتي استنتاجاتهم مختلفة... وهو ما ينبغي الاعتراف به واحترامه، وألا يضيق صدرنا حياله، بل أن ننطلق في إدارة الحوار حوله من موقع الاحترام المتبادل الذي يرى فيه أتباع كل مذهب أنهم يمثلون وجهة نظر في فهم الإسلام، كما أن غيرهم يملك وجهة نظر أخرى في فهم الإسلام أيضا، وأنّ أحدا لا يستطيع أن يدّعي احتكار التمثيل الإسلامي واحتكار الدعوة إلى الإسلام حتى احتكار الدفاع عنه.
إن المشكلة تكمن في أننا نتربّى مذهبيا في مجتمعاتنا الضيقة، ثم نحاول تعميم هذه المذهبية على مجتمعاتنا الفسيحة من دون أن تكون هذه المذهبية مذهبية فكرية تحمل أسس الحوار والتفاهم؛ ولذلك أقفل كل فريق الأبواب على نفسه، وزعم أنه يمثل الحقيقة كاملة غير منقوصة، ودخلنا في متاهات التعصب للذات المذهبية التي غالبا ما تكون ذاتا عشائرية، إذ لا تحمل في ثناياها روح أو طعم أو رائحة الإسلام.
ونحن نستقبل شهر محرم أدعو كل الخطباء، وكل من يعتلي المنبر الحسيني، إلى أن يقدموا عاشوراء نموذجا إسلاميا حركيا يسعى إلى تأصيل الواقع الإسلامي بمفاهيمه وبحركته، بحيث تكون ساحة عاشوراء هي ساحة الوحدة الإسلامية الحقيقية؛ لأن الإمام الحسين (ع) كان إمام المسلمين ولم يكن لفئة منهم، كما أنه سيبقى النبراس لكل الأحرار في العالم، وكل من يحاول أن يضع حركته في النطاق المذهبي أو سياق جماعة معينة يسيء إلى نهضته ويتنكّر للمبادئ الإسلامية والرسالية السامية التي انطلق بها.
ومن هنا، علينا الاستفادة من عاشوراء لتكون منبرا يحمي الوحدة الإسلامية، لا أن يُصار إلى استخدام هذا المنبر للإساءة إلى هذه الوحدة بأية وسيلة من الوسائل وبأية طريقة من الطرق؛ لأن الإمام الحسين (ع) هو للسنّة والشيعة؛ ولأن أهل البيت (ع)، كانوا أحرص الناس على اجتماع شمل المسلمين ونبذ كل أساليب التفرقة التي فيما بينهم.
ولذلك نعتقد أنّه لا سبيل للخروج من الدوامة المذهبية المغلقة إلا بالانتصار لشخصيتنا الإسلامية على حساب شخصيتنا المذهبية؛ ولن يكون ذلك إلا من خلال التفاعل مع القضايا من الزاوية الإسلامية الواسعة ووضع حسابات الربح والخسارة في دائرة الإسلام؛ لنرَ ماذا يكسب الإسلام هنا وماذا يخسر هناك، لا أن يكون السعي كله في كيف نكسب أفرادا هنا أو هناك لحساب هذا المذهب أو ذاك؛ لأن العالم الإسلامي لن يتغير بهذه الطريقة؛ ولأن ما يتهدد الإسلام يتجاوز قضايا السنة والشيعة إلى الإسلام كله.
إن علينا أن نحدّق مليا فيما تريده أميركا في المنطقة، إذ باتت إدارة بوش تفكّر في أن المخرج الوحيد لمأزقها يتمثّل في تأليب المذاهب الإسلامية بعضها على بعض وإشعال الفتنة في العراق والساحات المجاورة له. وبلغ الجنون بهذه الإدارة أنها - وعلى رغم كل إخفاقاتها في الحروب التي أثارتها في المنطقة - لا ترى مخرجا من الوضع القائم إلا بالفتن الداخلية التي قد تمهّد السبيل لحرب كبيرة في المنطقة.
إن جنون هذه الإدارة سيجعلها تحرق أصابعها أكثر في محاولاتها القادمة، وعلى المسلمين أن يعرفوا أن الفرصة باتت سانحة، وخصوصا بعد إعلان بوش خطّته الجديدة؛ للتوحّد في لبنان وفلسطين والعراق؛ لجعل الأميركي هو الذي يدفع الثمن؛ ولننطلق بمحور الوحدة الإسلامية الجامعة والشاملة في مواجهة ما تخطّط له أميركا تحت عنوان محور الاعتدال؛ لأن الأمور باتت مكشوفة إلى أبعد الحدود ولم يعد باستطاعة من يجري وراء أميركا أن يدفن رأسه في الرمال ولا من يعادي سياستها أن يتوارى خلف الحوادث، وباتت المسئولية تقع على عاتق الجميع لإقامة المحور العربي الإسلامي الذي يستطيع مواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي الذي لابد أن يدفع ثمن كل الجرائم التي ارتكبها في حق المنطقة والبشرية جمعاء.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1596 - الخميس 18 يناير 2007م الموافق 28 ذي الحجة 1427هـ