تشكل ظاهرة البستاني/ الشدياق نقطة تحول في معرفة الأصول الاجتماعية - الأيديولوجية لبدايات نمو «الفكر العربي المعاصر». فهذا الفكر خضع لتجارب كثيرة، ومر في التباسات وانتكاسات، وشهد حالات بسط وقبض وشد وجذب، أثرت في تكوينه مجموعة روافد متعارضة كان لابد لها من ترسيم حدوده. وظاهرة البستاني/ الشدياق تمثل واجهة ثقافية لتلك التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية - الإسلامية وتعرضت خلالها إلى سلسلة انقلابات لعبت فيها السلطات المحلية دورها الخاص في تشجيع تيارات الاستقلال عن مظلة السلطنة العثمانية. كذلك لعبت تلك السلطات المحلية دورها المستقل في الحد من نمو تلك التيارات «المعاصرة» خارج نطاق السيطرة.
السلطنة آنذاك كانت تمر في مرحلة انتقالية بسبب تعرضها للضغوط الدولية وعجزها الداخلي عن تشكيل قوة ضبط تمنع انهيار هيكلية مؤسساتها وموقعها في إدارة العلاقات مع الجماعات الأهلية من جهة والدول الأوروبية من جهة أخرى.
وبسبب هذه الحال الانتقالية تشكلت في الكثير من المناطق العربية - الإسلامية سلطات محلية متلونة الولاءات. كذلك تكونت نخبة من المثقفين تعاني من ازدواجية في الوعي والمفاهيم والهوية.
ظاهرة البستاني/ الشدياق الشامية (اللبنانية) لم تكن بعيدة عن تلك الازدواجية التي أنتجتها حال الانتقال التاريخية وما شكلته من تخبط وفوضى عانت منها السلطنة العثمانية بسبب فشل محاولاتها مجاراة التقدم الأوروبي.
البستاني والشدياق يلخصان في سيرتهما الذاتية تلك اللحظات التاريخية الانتقالية. فهما من الريف، ودرسا في «عين ورقة» المارونية، وانشقا عن الكنيسة المشرقية (العربية) الكاثوليكية، واعتنقا المذهب الإنجيلي البروتستاني، وتعاملا مع الانجليز، وتعاونا مع إرساليات التبشير الأميركية، واشتغلا في الصحافة، وأسسا المدارس والمطبوعات، واهتما بشئون المرأة وضرورة تعليمها... إضافة إلى الكثير من الأفعال المتطابقة احيانا والمتخالفة أحيانا أخرى.
وبسبب تلك الحياة الخاصة المحاطة بالانفعالات والتشنجات وردود الفعل السلبية والمثمرة شكلت هذه الظاهرة الثنائية إشارة واضحة إلى وجود تحول ما في تاريخ المنطقة. وهذا ما يمكن ملامسته من خلال قراءة سريعة لسيرتهما الذاتية التي تمثلت في محاكاة الغرب وفكرة التمدن وتقليد أوروبا وفي الآن رفض الخروج على المظلة التاريخية للحضارة العربية - الإسلامية.
بطرس البستاني نزح للإقامة في بيروت في العام 1840 الذي تصادف مع نشوء تحالف أوروبي عسكري ضد حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام. والمصادفة تعتبر مهمة لأنها شكلت بداية عودة ملتبسة للنفوذ العثماني مع بدء ظهور القوة الأوروبية الجديدة في المشرق العربي. وشجعت هذه الازدواجية السياسية البستاني على الاتصال بالانجليز ولعب دور المترجم ثم اتصل بالبعثة التبشيرية الأميركية (البروتستانت) واعتنق مذهبهم وهو أمر يعتبر في مقاييس تلك الفترة حركة تمرد على الكنيسة الشرقية. بعدها تعاون مع الإرساليات في تأسيس مدرسة عبية في العام 1846 وتولى التعليم فيها. ثم شغل وظيفة الترجمة في قنصلية أميركا في العام 1848 وعاون الإرسالية على ترجمة «التوراة». ثم انتقل للاهتمام باللغة العربية وتأليف القواميس فصدر له «محيط المحيط» و «قطر المحيط»، ثم انتقل إلى قطاع الصحافة فأنشأ «نفير سورية» في العام 1860 وهي السنة التي اندلعت فيها الحرب الطائفية بين الدروز والموارنة.
لا تختلف سيرة فارس الشدياق عن البستاني كثيرا. فهو أيضا من أصول ريفية تعلم في «عين ورقة» المارونية. وحين اعتنق شقيقه الكبير أسعد المذهب الإنجيلي أثار هذا التحول غضب البطريركية المارونية فحرمته ونفته إلى دير قنوبين وتوفي في عزلة عن العالم. وأسهم هذا الحادث في توليد ردة فعل عنيفة عند شقيقه فارس فاتصل بالمرسلين الأميركيين نكاية بالكنيسة ودعوه إلى مصر لتعليمهم العربية. وعاش الشدياق في القاهرة تسع سنوات تعرف خلالها على النخبة المصرية واطلع على كتاباتها وأعمالها واتصل بأسرة الباشا محمد علي وعمل إلى جانب الشيخ محمد شهاب الدين، قبل عودة الطهطاوي من باريس، في مطبوعة «الوقائع المصرية». وفي العام 1834 غادر إلى مالطا بدعوة من المرسلين الأميركيين وعاش هناك 14 عاما ليغادرها في العام 1848 إلى انجلترا بدعوة من «جمعية ترجمة الأسفار المقدسة».
هناك اشتغل مع المترجمين والمستشرقين وتجول في أوروبا وتنقل كثيرا بين لندن وباريس. وسجل الشدياق انطباعاته ورحلاته وصدرت له كتب في هذا الشأن. وحين اندلعت حرب القرم وقف الشدياق مع السلطنة الأمر الذي دفع السلطان عبدالمجيد إلى توجيه دعوة له لزيارة اسطنبول. كذلك وقف الشدياق إلى جانب الحركة الإصلاحية التي قام بها باي تونس بتأثير من خيرالدين التونسي وتشجيع منه.
تلقى الشدياق دعوة لزيارة تونس والإقامة فيها، وهناك سيقوم باتخاذ خطوة انقلابية في حياته حين قرر اعتناق الإسلام في العام 1857 وتسمى باسم أحمد. وعمد أحمد الشدياق خلال فترة إقامته في تونس إلى مساعدة الباي في تسيير شئون الدولة وتبوأ المناصب العليا. ولكنه في العام 1860 (سنة بدء الحرب الأهلية في جبل لبنان) قرر مغادرة تونس إلى اسطنبول تلبية لدعوة السلطان. وهناك دخل بقوة عالم الطباعة والمطبوعات والصحافة، إذ التحق بديوان الترجمة وتولى تصحيح الكتب وقرر إنشاء صحيفة «الجوائب» السياسية الأسبوعية بالتعاون مع المطبعة السلطانية.
سيرة البستاني/ الشدياق تشكل ظاهرة ثنائية في عالم يتحول ويشهد فترة انتقالية من علاقات سلطانية إلى علاقات ملتبسة وغير واضحة المعالم مع دول الغرب، ترافقت مع نمو وعي جديد لمفهوم الدولة البديلة وهياكلها التنظيمية ومستوى تقدمها ومعرفتها وهويتها الدينية والقومية والوطنية. فالبستاني غيَّر مذهبه وتحدى الكنيسة، والشدياق غيَّر مذهبه المسيحي ثم اعتنق الإسلام. والبستاني اشتغل مع الانجليز والأميركان كذلك فعل الشدياق. والبستاني اهتم بالتعليم والمدارس والترجمة والطباعة والصحافة واستخدام الإعلام للتأثير على الرأي العام وصناعة الفكر وتحديث اللغة كذلك فعل الشدياق. وهذا التشابه النسبي في السيرة الذاتية يلقي الكثير من الأضواء على حال الازدواج الفكري في تكوين شخصية المثقف في تلك المرحلة الانتقالية. وبسبب هذا الالتباس الديني - المذهبي والقومي - الوطني والعثماني - الأوروبي تشكلت «نخبة شامية» متوزعة الولاءات وغير قادرة على ضبط تصورات ثابتة في عالم يتخبط ويرمي بثقله على جماعات أهلية موزعة على طوائف ومذاهب.
ظاهرة البستاني/ الشدياق متقاربة ولكنها أيضا متباعدة عن ظاهرة الطهطاوي/ التونسي. فالثنائية الأولى فكرية (أيديولوجية) تبحث عن هوية جامعة لا تجدها في المشرق العربي المتنوع المذاهب والطوائف والمتعدد في أقلياته وأكثرياته ويفتقر إلى «دولة» تقود الناس وتتعاون مع النخبة لوضع الخطط والتصورات والمشروعات والتنظيمات. بينما الثنائية الثانية سياسية (رجال دولة) لا تعاني كثيرا من قلق ازدواج الشخصية وتعيش في مجتمع متجانس نسبيا في هويته الوطنية والدينية وإلى حد ما المذهبية. وهذا الاختلاف بين الظاهرتين لا يلغي إمكان تعاونهما أو تفاهمهما على محاكاة أوروبا وتقليد تمدنها بغية تحقيق التقدم المطلوب على صعيد الرقي الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي والعدالة السياسية.
هذا النوع من الالتقاء يظهر أكثر في شخصية الشدياق القلقة والمتنقلة والباحثة عن تجانس مع الجماعة الأهلية. ولعل رحلات الشدياق إلى مصر ومالطا وأوروبا وتونس وتركيا ثم عودته إلى مصر أسهمت في تشكيل قنوات واعية ساعدت على بلورة شخصيته الثقافية ودفعتها إلى اعتناق الإسلام بحثا عن توازن نفسي مفقود في فترة كانت السلطنة تشهد ذاك التراجع التاريخي والجغرافي. والمصادفة التي لعبت دورها في ظهور هذه الشخصيات اللامعة والاستثنائية في فترة متقاربة تكشف عن وجود عوامل تاريخية مشتركة أحدثت صدمة ثقافية في حياة جيل من المتعلمين، أسهمت لاحقا في إطلاق نخب شامية ومصرية وتونسية في وقت واحد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1596 - الخميس 18 يناير 2007م الموافق 28 ذي الحجة 1427هـ