العدد 1595 - الأربعاء 17 يناير 2007م الموافق 27 ذي الحجة 1427هـ

ثلاث كلمات أطاحت بحالوتس

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«التقصير»، «الفشل» و «الانتكاسة». ثلاث كلمات رددتها الصحافة الإسرائيلية خلال فترة العدوان على لبنان في الصيف الماضي. والكلمات الثلاث تلخص إلى حدٍّ ما تلك الأزمة التي عصفت بحكومة إيهود أولمرت؛ بسبب عدم نجاح تل أبيب في تحقيق أهدافها العسكرية ضد حزب الله. وبعد توقف العدوان انتقلت الكلمات الثلاث إلى لجنة التحقيق التي شكّلتها الحكومة بشأن الحرب وتحوّلت إلى مفاتيح رئيسية لقراءة الملف وتحديد الأسباب التي عطّلت إمكانات التوصل إلى إنجاز الأهداف المتوافق عليها رسميا لإعلان الانتصار.

الكلمات الثلاث كانت كافية للإطاحة برئيس أركان الجيش دان حالوتس، إذ قرر الأخير تقديم استقالته من منصبه فور صدور التحقيق عن اللجنة التي حمّلته مسئولية رئيسية في التقصير والفشل والانتكاسة. فحالوتس فضّل مغادرة موقعه تاركا لحكومة أولمرت مواجهة تداعيات الأزمة التي هزّت الدولة وتركت مجموعة أسئلة تتصل مباشرة بموقع الكيان ودوره وسمعته العسكرية وهيبته في منطقة «الشرق الأوسط».

خروج حالوتس من دائرة الاتهام المباشر لا يلغي مفعول تقرير لجنة التحقيق. فالتقرير يطرح أسئلة تمسّ جوهر الاستراتيجية العسكرية ويحث على إجراء تعديلات هيكلية حتى يعاد الاعتبار إلى مؤسسة تعتبر هي أساس قيام الدولة والهيئة المكلّفة لحماية الكيان من التفكك والانهيار.

المسألة إذا ليست قليلة ولابد من قراءة عناوينها في سياق أكبر من تلك التفصيلات التقنية التي لجأ إليها التقرير. فالتحقيق ركّز على عناصر بشرية تتعلّق بارتباك القيادة وعدم توافقها على خطة ميدانية مشتركة. وشكّل هذا الاختلاف في وجهات النظر نقطة توتر ساهمت في عدم وضوح الأهداف وعززت تلك الفوضى التي ظهرت في التصريحات المتعارضة بشأن الحرب وذهاب كل فريق في اتجاه معاكس للآخر. فرئيس الوزراء قرأ العدوان من رؤية خاصة به محاولا قدر الإمكان تكييفها مع الاستراتيجية الأميركية في المنطقة والأساليب المتبعة من قِبل واشنطن في إدارة الأزمات. وزير الدفاع ارتبك بين توجه عسكري ميداني يريد تحقيق خطوة تعتبر مؤثرة على توازن القوى على الأرض وبين غموض القيادة السياسية في التعامل مع الأهداف المرجوة من العدوان. رئيس الأركان دخل في تعارض بين رئيس الوزراء ووزير الدفاع محاولا تأسيس خط ثالث يرضي الطرفين. وبناء على توجه رئاسة الأركان اعتمد حالوتس على القوات الجوية وأفرط في استخدام التفوق الجوي لتوجيه ضربات عشوائية إلى الجنوب ترافقت مع حملات مركزة ساهمت في تقطيع أوصال لبنان وزعزعت أركان الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا) من دون أن تسجّل نقطة ميدانية يمكن استغلالها لإعلان النصر العسكري.

حالوتس كان قائدا للقوات الجوية سابقا ومعجبا بالطريقة الأميركية التي تعتمد على التفوق الجوي والضربات التي توجه عن بعد مستخدمة الكمبيوتر والإنترنت والمعلومات الفضائية (الأقمار الاصطناعية). وهذا الإعجاب الذي ظهرت نتائجه في حرب كوسوفو (يوغوسلافيا سابقا) فحرب احتلال أفغانستان في 2001 ثم حرب غزو العراق في 2003 دفع حالوتس إلى تقليد ذاك الأسلوب وإعادة تطبيقه ضد حزب الله في لبنان.

استنساخ التكتيكات الأميركية أراد منها حالوتس توجيه رسالة مخيفة إلى المنطقة تشير إلى قوة «إسرائيل» التي لا تقهر والإمكانات الجوية التي تتمتع بها وصولا إلى قدرتها على إيقاع هزائم ضد الدول العربية من دون حاجة إلى استخدام القوات البرية. فالانتصار كما توقع حالوتس يمكن تحقيقه من الجو ومن خلال تكرار النموذج الأميركي (الكمبيوتري) الذي نجحت واشنطن في تطبيقه في أكثر من مكان.

إفراط حالوتس في الاعتماد على القوة الجوية أدى إلى توسيع شق الخلاف بين رئاسة الأركان ووزير الدفاع، كذلك أربك القوات البرية التي حاولت مرارا التقدم ميدانيا وكان نصيبها الفشل تلو الفشل وبعد جهد جهيد وكلفة عالية نجحت في تسجيل اختراقات في «قشرة» محدودة العمق في الجنوب اللبناني.

عقيدة خائبة

لم ينجح حالوتس في تقليد النموذج الأميركي وهذا ما كشف لاحقا عن وجود خلل في البنية العسكرية الإسرائيلية، وضعف في التوجهات الاستراتيجية، والمزيد من الاتكال على القوات الجوية والتقنيات الحديثة المترادف مع إهمال متضخم للقوات البرية. ونقاط الضعف هذه تعتبر في المقاييس الإسرائيلية بداية انقلاب على مؤسسة اعتمدت تقليديا على القوات البرية (الغزو والاحتلال) بينما كان دور القوات الجوية يقتصر على الضربات الاستباقية الأولى تمهيدا للهجوم فضلا عن توفير الحماية والغطاء للألوية المتقدمة على الأرض.

ما حصل في عدوان الصيف على لبنان في العام 2006 يعتبر تجربة جديدة وفاشلة إذ أرادت «إسرائيل» من خلالها توجيه رسالة تخويف تشير إلى تفوقها وتمتعها بإمكانات لا تقل تقنية ومقدرة عن تلك الأميركية فجاءت النتائج توجه صفعة تاريخية واستراتيجية إلى دولة اعتبرت نفسها أصبحت بمنأى عن الخطر بعد عبور جيوش الولايات المتحدة المنطقة منذ العام 1990 - 1991. والحرب التي خاضتها «إسرائيل» ضد حزب الله في الصيف الماضي تختلف فعلا في أساليبها وتكتيكاتها عن تلك الحروب التي شنتها ضد فلسطين ودول الجوار العربي منذ تأسيسها في العام 1948. فالحروب السابقة اعتمدت على تفوق القوات الجوية على الدول العربية المجاورة ولكنها كانت تركز على تقدم القوات البرية المدعومة بالطائرات والمدفعية والدبابات في تكتيكات اقتحام الحصون والقرى والبلدات والمدن. فالمدى الجغرافي الميداني كان هو مقياس التقدم والمساحة التي يتم اختراقها بريا كانت تشكّل تلك المنطقة المحتلة التي من خلالها تدعي تل أبيب تسجيل الانتصارات. فهذا الأمر حصل وتكرر في حروب 1948 و1956 و1967 و1973 و1982. ولكن هذا الأمر لم يحصل خلال عدوان 2006.

في الحرب الأخيرة أرادت تل أبيب إظهار نفسها أمام العالم على أنها باتت قوة إقليمية عظمى تستطيع أن تحقق أهدافها السياسية وأغراضها العسكرية وغاياتها الميدانية من دون النزول إلى الأرض ومن دون ضرورة لاستخدام القوات البرية للاقتحام والتقدم الميداني. وهذا التوجه يعتبر عقيدة جديدة في تاريخ «إسرائيل» العسكري وربما حاول حالوتس استخدامها خلال العدوان لتأكيد وجهة نظر رئاسة الأركان وإقناع وزارة الدفاع بأن الحروب المعاصرة في الزمن الحديث لا تحتاج إلى حشد من الجنود وإنما إلى نخبة نوعية متدربة على استخدام الكمبيوتر والإنترنت وربط أجهزة الاتصالات بالمعلومات وإعادة بثها إلى طيارين يحلّقون في سماء لبنان.

كانت النتيجة مخيّبة إذ نجحت القوات الجوية في حرق القرى وتدميرها في الجنوب وفي تحطيم الجسور والبنى التحتية وفي تكسير المرافق العامة وإفراغ الضاحية والقرى الحدودية من السكان وتعطيل الحياة المدنية وتقطيع أوصال المناطق ولكنها لم تنجح في إنزال الهزيمة بحزب الله.

هذه النتيجة الخائبة هي التي دفعت الإعلام الإسرائيلي خلال الحرب وبعدها إلى ترديد تلك الكلمات الثلاث «تقصير»، «فشل» و «انتكاسة». ومجموع تلك الكلمات أنتج ذاك الإرباك السياسي الذي عطّل أمام حكومة أولمرت إمكانات الرؤية فاهتزت الصورة وتنوّعت القرارات بين رئيس الوزراء الذي لا يريد تجاوز السقف الأميركي، وبيرتس الذي احتار بين الغزو الفضائي والاكتفاء بالنتائج الميدانية، وحالوتس الذي اعتمد على الجوّ فتمّت معاقبته في الميدان.

تقرير لجنة التحقيق بشأن التقصير في الحرب على لبنان ركّز كثيرا على الجوانب التقنية والنقص في التجهيزات والضعف في الاستعداد وإهمال القوات البريّة والخلل في التنسيق وعدم وضوح الرؤية والارتباك في القرارات السياسية والضياع بين الاكتفاء بتوجيه ضربات جويّة أو تطوير العدوان إلى هجوم بري واسع وكاسح. إلا أن هناك جوانبَ سياسية كثيرة لم تظهر حتى الآن وخصوصا تلك المتعلقة بعدم وضوح التعليمات الصادرة عن رئاسة الحكومة أو وزارة الدفاع إلى رئاسة الأركان. وهذه النواقص يرجح أن تكشفها الأيام مع مرور الزمن وهي لا شك تعتبر مادة معلومات ضرورية لمعرفة الحقيقة من كل جوانبها الدولية والأميركية والإقليمية والعربية. فالسياسة هي الدليل؛ لأنها تلقي الضوء على زوايا غامضة تحتاج إلى وقت لتوسيع درجاتها الحادة حتى تظهر إلى العيان ماذا كان يدور من محادثات ومفاوضات دولية وإقليمية من وراء الكواليس وتحت الطاولة. وهذا الجانب السياسي لم يأتِ تقرير لجنة التحقيق على ذكره.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1595 - الأربعاء 17 يناير 2007م الموافق 27 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً