شنق الحكام العراقيون والأميركيون الرئيس العراقي السابق صدام حسين، في آخر أيام العام الماضي فرد المعارضون بشنق 20 عراقيا وتعليقهم على الأشجار في شارع حيفا ببغداد، في مطلع العام الجاري.
وفي الحالين، كان الثأر السياسي والانتقام الطائفي هو الحاكم، مفتتحا كما نظن مرحلة أكثر دموية وسخونة ليس في الساحة العراقية وحدها ولكن في دول عربية أخرى، بدأت تباشير الحروب الطائفية والمذهبية تهب علينا مستلهمة الإلهام العراقي الصاخب والمؤلم!
وما هي إلا ساعة أو تكاد، حتى انقض الرئيس الأميركي جورج بوش على الأوضاع المضطربة بثقله السياسي العسكري ليزيدها اشتعالا حتى وإن كان قد قال إن هدفه بالاستراتيجية الجديدة في العراق هو إقرار الأمن وإنهاء العنف وإنجاح الديمقراطية!
وبقدر ما نرى أن الصراع الطائفي والعرقي المندلع في العراق، بين السنة والشيعة والأكراد لن يركن إلى الهدوء في ظل الظروف الحالية، فإننا نعتقد أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة، بأهم بنودها إرسال 20 ألف جندي أميركي جديد، لن تستطيع في المدى المنظور إحكام سيطرتها على هذه البؤرة النارية الملتهبة بل إنها ستزيد سعير الحرب أملا في نصر موهوم وبعيد المنال، يصاحب انتهاء ولاية بوش العام 2008 بشيء مما يزهو به بعد أن تلوثت سمعته كثيرا بالدماء!
في أربع سنوات إلا شهرين 2003 - 2007 لم تحقق القوة العظمى المنفردة أي نصر حقيقي في العراق، سواء كان سياسيا أو عسكريا أو ديمقراطيا، اللهم إلا إسقاط نظام صداح حسين وإعدامه شنقا، لكنها في الحقيقة دفعت الأمور رفعا نحو تحقيق ما هو أخطر.
فقد أشعلت الحرب الطائفية والعرقية هناك وغذت مشاعر الثأر والانتقام العرقي والديني، وأرست قواعد التقسيم، وتسببت في مقتل ثلاثة أرباع مليون عراقي، وأكثر من ثلاثة آلاف جندي أميركي، وهجرة مليوني عراقي إلى الخارج، وتهجير نحو مليون آخرين وفق حملات التطهير الطائفي المتبادل بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد في المناطق المختلفة، وتحويل البلاد إلى أسخن بؤر العنف والتطرف في العالم، واستقطاب النفوذ السياسي والمذهبي الإيراني إلى الساحة علنا، بينما لم يجن المواطن الأميركي سوى تحمل وزر إنفاق 400 مليار دولار على هذه الحرب الخاسرة حتى الآن!
وما يهمنا تناوله اليوم، يكمن في هذه الحرب الطائفية المندلعة بوحشية بين السنة والشيعة في العراق، التي تتغطى بصراع سياسي على امتلاك الثروة والسلطة وفي خليفة كل طرف مؤيد وداعم من خارج الحدود، وخصوصا الداعم الأميركي الذي ساند الأكراد والشيعة منذ البداية، ثم تنبه الآن إلى أنه لم يسلم العراق إلى الشيعة العراقيين الذين يشكلون ما بين 62 و65 في المئة، ولكنه سلم العراق إلى الدولة الإيرانية مباشرة!
والدولة الإيرانية قوة إقليمية مهمة، لها نفوذها وطموحها السياسي وخططها الاستراتيجية ومطامعها المشروعة وغير المشروعة، ولها في الوقت نفسه تأثيرها المذهبي باعتبارها أكبر دولة شيعية، تمد نفوذها السياسي تحت الغطاء المذهبي وتدعم تأثيرها الطائفي بقدرات سياسية واقتصادية قوية، باعتبارها ثالث دولة تملك مخزونا نفطيا، بعد السعودية والعراق، وتطمح إلى دخول النادي النووي سريعا لحماية هذا وذاك.
وها هو فضاء المنطقة يغلي بخلط شديد في الأمور بين السياسة والدين، بين أطماع الاستعمار الجديد والاستعمار المتجدد، بين السيطرة الإقليمية والهيمنة الدولية، بين ما هو عربي وإيراني وأميركي وإسرائيلي، وها هو العراق أولا يغرق في ساحة اختبار وتجريب كل ذلك دفعة واحدة، قبل أن ينتقل الصراع إلى دول الجوار ثانيا، الأمر الذي يقلق الدولة العربية وخصوصا التي تعلم أن الدور عليها قادم لا محالة!
ونظن أن جوهر الصراع ليس في الحقيقة سنيا شيعيا ولا إسلاميا مسيحيا، لكن جوهر الصراع أنه أميركي إيراني في الأساس، ومن حوله الحلفاء والأصدقاء مصطفين حوله وفي عمقه ترقد المصالح الاستراتيجية والحيوية للطرفين الأساسيين، أميركا وإيران، الذين يتجاذبان كرة اللهب ويتبادلان قصفها، إيران تريد الاعتراف بها قوة إقليمية في الإقليم الممتد من سواحل الخليج الغني بالنفط، إلى شواطئ سورية ولبنان على البحر المتوسط على حساب قوى إقليمية أخرى، مثل السعودية ومصر وربما تركية وأميركا لا تسمح بذلك، بل تريد الانفراد وحدها بالمنقطة أرضا وبحرا وجوا، بما في ذلك بحيرات النفط والغاز في الخليج والعراق أيضا، وصولا لضمان أمن «إسرائيل» وبعض نظم الحكم العربية الحليفة.
إذا فهي حرب مصالح سياسية اقتصادية في الأساس، تغللها سحابات دينية ومذهبية فقد شنت أميركا حربها على العراق العام 2003، تحت غطاء الوحي الإلهي الذي نزل على بوش فألهمه إلهاما رسوليا بشن حرب الأخيار ضد الأشرار أعداء الرب، وردت إيران بأن أميركا تشن حربا على الإسلام، وتستهدف الدين والثقافة ليس في العراق فقط، لكن في إيران والدول العربية والإسلامية المجاورة، وبالضرورة ساندت إيران اتباع مذهبها الشيعي في العراق، ودربت وسلحت ميليشيات شيعية عدة، وخصوصا قوات بدر وجيش المهدي، التابعين للمجلس الأعلى للثروة الإسلامية برئاسة عبدالعزيز الحكيم، وللتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر لتخوض بهما المواجهة فوق الأرض العراقية...
وبقدر ما تبارز الطرفان الإيراني والأميركي في الساحة العراقية سياسيا وعسكريا وطائفيا بقدر ما سقطت الأقلية السنية وهي ما بين 15 و17 في المئة من السكان، في بؤرة القتل والتصفية، فانفتحت الثارات القديمة وعلت صيحات الانتقام من «المظلومية» التاريخية، وتبادلت الأطراف السنية والشيعية القتل على الهوية المذهبية وتدمير المساجد والحسينيات والمراقد والمزارات ثم بدأ التطهير الطائفي على الأرض.
ترفع الأطراف الشيعية المؤثرة مطلب الحكم الذاتي في تسع محافظات بالوسط والجنوب، وهي بالمناسبة الغنية بالنفط والماء، ويتحصن السنة في أربع محافظات وخصوصا في الغرب وبغداد بينما يمارس الأكراد استقلالهم الفعلي في ثلاث محافظات في الشمال.
وكان المتصور من قبل أن بغداد هي العاصمة المركزية المجمعة للكل، لكن بغداد سقطت على مدى العام الأخير في براثن التطهير الطائفي وفق وحدانية الانتماء المذهبي، وها هي اليوم تنقسم إلى قسمين، أحدهما شرق نهر دجلة فيما يعرف بالرصافة وأصبح شيعيا كاملا بعد التهجير القسري للسنة منه، وثانيهما غرب دجلة فيما يعرف بالكرخ وأصبح سنيا بعد أن مارست الميليشيات المتعددة مهمة القتل والترويع والتهجير المتبادل.
بغداد إذا هي النموذج الطائفي لدولة طائفية، تبرز على السطح بقوة في العراق تتمزق ما بين المذاهب والطوائف والأعراق، وتنفتح فيها أبواب جهنم بفضل الراعي الأميركي والمحرض الإسرائيلي والمتوثب الإيراني، الذي اجتهد كثيرا وطويلا ليس فقط لاستنزاف «قلعة الشر الأميركية» ولكن أيضا للهيمنة على الجزء الحيوي العراقي المزدحم بالشيعة والغني بالنفط بعدما تردد من أنباء عن قرب نضوب النفط الإيراني خلال عشرين عاما على الأكثر!
والمؤكد أن الصراع الطائفي المندلع في العراق بين الشيعة والسنة الذي تجيد إيران استغلاله سياسيا ودينيا، لا يقل شراسة عن معركة السلاح النووي بين إيران وأميركا التي تستقطب أطرافا عربية ودولية عدة، وبقدر ما يستغرب البعض من اندفاع إيران لخوض المعركتين في وقت واحد، بقدر نرى أن كلا منهما تخدم الأخرى وتساندها، فإيران تخوض في العراق بكل قوتها سياسيا وعسكريا دعما لحلفائها وتدفعهم دفعا لمواجهة محتومة مع أميركا، لكي تقايض على مشروعها النووي وهي أيضا تمضي قدما في انجاز مشروعها النووي متحدية أميركا والعالم، لكي ترسخ نفوذها الإقليمي ودروها المتعرف به دوليا... وأميركا تفعل العكس مدعومة بحلفائها العرب والأوروبيين!
مرة أخرى الصورة مكررة والتمثيلية الصراعية معادة، الصراع الطائفي والديني يغطي المصالح الاستراتيجية والغطاء السياسي العسكري يعكس المطامح الطائفية والدينية بين قطبين قوة إقليمية صاعدة وقوة عظمى دولية معاندة فأين نحن إذا؟!
نحن أمام نوعين من السيناريو...
السيناريو الأول، أن يستمر الصدام الإيراني الأميركي بكل عنفه وشراسته فوق الساحة العراقية، منتقلا إلى ساحات عربية أخرى، باستخدام الحرب السياسية العسكرية من ناحية، والحرب الطائفية الدينية من ناحية أخرى، الأمر الذي قد يصل إلى هجوم عسكري نووي أميركي إسرائيلي على إيران مدعوما من بعض الدول العربية و»إسرائيل» طبعا.
وساعتها تتحول الدول العربية والعراق والخليج وخصوصا إلى ساحة أوسع للصراع والدمار إذا تمكنت إيران من الرد عسكريا بقوة مؤثرة.
السيناريو الثاني، أن يلجأ الطرفان الأميركي والإيراني إلى التهدئة والتفاهم وصولا للاتفاق والخليج إلى وجبة غذاء شهي على المائدة الإيرانية الأميركية.
ومن عجب أن تكون العواقب والنتائج في السيناريوهين واحدة، فالضحية واحدة هو نحن، وعلينا دفع فاتورة العجز والضعف والغياب عن مائدة الاقتسام بينما سوس التقسيم على أسس طائفية يسرى في الجسد الهزيل من شدة الأمراض الفتاكة والمزمنة!
خير الكلام: يقول المتنبي
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1594 - الثلثاء 16 يناير 2007م الموافق 26 ذي الحجة 1427هـ