الكلام المنسوب إلى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بشأن الدور العربي في العراق يحتاج إلى قراءة. ما فهم من الكلام أن رايس تشجع الدول العربية على لعب دور لاستعادة بلاد الرافدين إلى العالم العربي. وهذه الاستعادة لا يمكن أن تعرف النجاح إذا استمرت العواصم العربية ذات التأثير على المجموعات السياسية «السنية» تأخذ موقف المترقب أو المتفرج. وهذا الكلام في حال تم التدقيق في تفصيلاته يكشف عن رؤية أميركية تريد تأسيس دور عربي على قوى سياسية ذات لون مذهبي وبالتالي يؤدي إلى توزيع النفوذ وإعادة ترميم الدولة ضمن منهجية تعتمد «المحاصصة الإقليمية» في سياق خطة ترسيم حدود خريطة «الشرق الأوسط الجديد».
رايس لم توضح فكرتها والمعنى الذي تريد استخلاصه منها. فهل هي تقصد أن العراق لم يعد كما كان وعلى الدول العربية أن تسارع إلى أخذ حصتها منه وإلا فستخسر نفوذها في بلاد الرافدين؟ وهل هي تشجع الدول العربية على الدخول في منافسة مذهبية مع إيران مثلا حتى تجد لنفسها الموقع السياسي المطلوب لتكون ذاك الشريك العربي في صوغ «نموذج» العراق ومستقبله؟
هذا التوضيح لم يرد في كلام رايس، ولكن يمكن استنتاجه من تصريحات متفرقة أطلقتها خلال جولتها الراهنة. فهي مثلا تحدثت عن تكتلات سنية عربية، وذكرت أن تلك الأطياف تتمتع بعلاقات أو دعم من العواصم العربية أو على الأقل تتأثر هذه القوى بالمواقف العربية ورؤيتها لهوية العراق.
إلا أن رايس لم تحدد تلك الأطراف السنية العراقية ولم تشر إلى هويتها الحزبية. فهل هي تقصد الأحزاب التي تعارض الاحتلال، أم تلك التي تقاوم الاحتلال، أم تلك التي وافقت على الدخول في العملية السياسية بعد الاحتلال؟ فمن تقصد رايس في كلامها؟ وأي فئة اختارت للدول العربية حتى تنسج معها علاقات تمهيدا لإعادة العراق إلى العالم العربي؟ هذا التحديد تجنبت رايس الدخول فيه واكتفت بإثارة العموميات التي يمكن تفسيرها على أكثر من وجه. فهل مثلا تريد من الدول العربية إقناع المقاومة بوقف عملياتها أو اعتراضها على الاحتلال أم تريد أن تطور العواصم العربية علاقاتها مع الأطراف التي دخلت العملية السلمية لتحسين شروط مواقعها في بناء «العراق الجديد»؟ أيضا لا جواب تملكه رايس بشأن هذه التلميحات. فهل هي مثلا تتهم الدول العربية بأنها تقف وراء أعمال المقاومة وتشجع الأطياف السنية على رفض الاحتلال وبالتالي إذا رغبت في لعب دور عليها وقف الدعم أو إقناع تلك المقاومة على القبول بالاحتلال؟ أيضا لا جواب يمكن أن يؤخذ من كلام رايس العام.
كلام رايس عن استعادة «عروبة» العراق غير مفهوم ولا تعرف مقاصده. فهي شجعت الدول العربية على إقامة علاقات دبلوماسية مع بغداد والاعتراف بحكومة نوري المالكي كذلك طالبت العواصم العربية بإرسال القناصل والسفراء وفتح السفارات كبادرة حسن نية تشجع على تطوير العلاقات مع الحكومة العراقية. ولكن رايس ترددت في إعطاء ضمانات للطواقم الدبلوماسية كذلك تجاهلت أن الكثير من الدبلوماسيين العرب (الأردن ومصر مثلا) تعرض للخطف والقتل والتهديد بالطرد أو الاغتيال ولم تحرك قوات الاحتلال ساكنا ولم تلاحق الجهات التي ارتكبت تلك الأفعال. فهل تريد رايس إرسال الدبلوماسيين العرب وتهديدهم بالقتل من أطراف مجهولة لا يعرف من يمولها ويقف وراء أفعالها التي أضرت بالعراق ومقاومته وقطعت شرايين الاتصال بين بغداد والدول العربية؟ وهل نسيت أو تناست وزيرة الخارجية أن هناك عمليات تفخيخ وتفجير ونسف تعرضت لها مراكز الأمم المتحدة وبعثات الصليب أو الهلال الأحمر ومقرات الدول العربية خلال السنوات الأربع الماضية بغية منع أو تخويف أية هيئة دولية أو عربية أو أوروبية أو آسيوية محايدة من النشاط الإنساني أو الدبلوماسي في العراق؟
الاحتلال والإرهاب
كل هذا جرى في ظل الاحتلال وبرعاية القوات الأميركية، وبالتالي هل تطلب رايس من الدول العربية تكرار المحاولة بعد تلك الهجمات التي قطعت أوصال العراق بدول الجوار العربية وغير العربية؟
هذا النوع من الأفعال الذي أدى إلى عزلة العراق وعزل الدول العربية عن بلاد الرافدين، من يتحمل مسئوليته السياسية والخلقية غير الاحتلال؟ فهل مثلا بدأت واشنطن تغيير موقفها من الدور العربي بعد أن وصلت سياستها الهجومية إلى طريق مسدود؟ وهل أخذت تعيد النظر في سياسة عزل العراق والاستفراد به كغنيمة حرب بعد أن وجدت نفسها تواجه ذاك المأزق الذي لعبت الدور الأساس في ترتيبه ومنعت الدول العربية وأوروبا من الدخول في اللعبة حتى لا تشارك غيرها في «الانتصار» العسكري؟
رايس تعاتب الدول العربية وتتهمها بالتقصير وتطالبها بلعب دور إذا كانت جادة في استعادة العراق إلى العالم العربي. ولكن وزيرة الخارجية التي تتحدث عن النتائج بعمومية سياسية لا تذكر الأسباب والعوامل التي دفعت منظمات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والمؤسسات الصحية وبعثات الإغاثة وغيرها من هيئات حقوقية وسياسية إلى الخروج من العراق بعد أن منعت من العمل بحرية في بلد اعتبرته منذ سقوطه ملكية خاصة. حتى شركات النقل تعرضت للخطف وقتل كل من أراد أن يعمل في حقل من حقول الإنتاج النفطي أو التجاري أو التسويقي. كم سائق شاحنة خطف وقتل؟ وكم من تاجر تعرض للسرقة والنهب؟ وكم من مؤسسة تجارية أو تموينية كانت عرضة للهجمات والتفخيخ والسلب أو الابتزاز المالي؟ حتى الأساتذة تعرضوا للمخاطر كذلك الطلبة أو أي طرف عربي حاول الاتصال بالعراق للعمل أو المساعدة.
هذه الأفعال حصلت خلال السنوات الأربع الماضية برعاية الاحتلال وإشرافه وربما بتشجيع منه حتى يكون العراق غنيمة حصرية للولايات المتحدة. فهل الآن تغيرت قناعات واشنطن وبدأت تعيد النظر في تلك السياسة الاحتكارية التي تعمدتها منذ اليوم الأول لسقوط بغداد؟
رايس لا تجيب بنعم أو لا، حتى إنها تتجاهل تلك الحوادث ولا تذكر الجهات التي شجعت تلك الحركات المشينة ولا تأتي على شرح الملابسات التي دفعت الاحتلال إلى السكوت وعدم كشف القوى التي ساهمت في تقطيع أوصال العراق وقطع دابر اتصالاته وصلاته مع محيطه العربي/ الإقليمي. فرايس كما يبدو تكتفي بالنتائج وتتجاهل الأسباب وتعاتب الدول العربية على التقصير وعدم تحركها على إنقاذ العراق من ورطته واستعادته إلى العالم العربي.
هذا الكلام المتأخر يحتاج فعلا إلى قراءة. فهل المقصود من تصريحات رايس أن حصة الدول العربية محصورة بأهل السنة فقط وبالتالي على العواصم المعنية التحرك بهذا الاتجاه وضمن هذه الدائرة؟ إذا كان هذا هو القصد من الكلام فمعنى ذلك أن الولايات المتحدة قررت خطوة تقسيم العراق، وتوزيع شرائحه وفق نظام المحاصصة الذي يضمن لكل فريق نسبة معينة من بلاد الرافدين. وإذا كان القصد هو تأمين غطاء عربي لحكومة المالكي وبالتالي أخذ الموافقة على الاحتلال فمعنى ذلك أن واشنطن لا تريد الانسحاب وإنما تخطط لتشريع وجودها العسكري من خلال إعطاء ضمانات للدول العربية بالعودة إلى العراق تحت ستار العمل على إعادته إلى العالم العربي. وإذا كان القصد من الكلام تأسيس جبهة عربية تعتمد على سنة العراق لمواجهة جبهة إيرانية تعتمد على الشيعة فمعنى ذلك أن إدارة «البيت الأبيض» تحاول كسب الوقت لإضفاء نوع من الصدقية على سياسة باءت بالفشل وأثارت الفوضى وشجعت أهل الرافدين على الاقتتال.
كلام رايس بحاجة إلى قراءة لمعرفة المضمون السياسي المراد منه. فالكلام عام وغامض ويقلب الحقائق ويحمّل الدول العربية مسئولية الفشل ثم يطالبها بالتحرك تحت غطاء تشريع الاحتلال وضمن أجندة تعترف بالانقسام الأهلي وتوافق على توزيع الحصص والنسب في إطار جبهات سياسية إقليمية تعتمد «المذهبية» لا المصالح أساسا للعلاقات الجوارية. وهذا الشيء إذا صح في قراءة كلام رايس يعني أن المنطقة دخلت في مرحلة خطرة تقوم على فكرة تمنع عودة العروبة إلى العراق إلا ضمن دائرة طائفية، وتستورد من بلاد الرافدين نموذج المذهبية إطارا لإقامة الدول وتأسيس الجبهات وتنظيم علاقات الجوار. وهذا هو الجانب الأخطر في كلام رايس.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1594 - الثلثاء 16 يناير 2007م الموافق 26 ذي الحجة 1427هـ