العراق بلد صعب، أخذت من الإمبراطورية العثمانية في طور توسعها أكثر من أية منطقة أخرى، احتاج العثمانيون إلى حملة واحدة فقط لفتح كل من مصر والشام، أما العراق فقد أخذت منهم 3 حملات و30 عاما. البريطانيون فقدوا أربعة آلاف قتيل من جنودهم في حربهم على العراق في الحرب العالمية الأولى. كلا الإمبراطوريتين بعد ذلك تمكنتا من العراق، الأولى بقيت أكثر من أربعة قرون تحكم ذلك البلد، والثانية امتد نفوذها إلى أكثر من نصف قرن.
اختلف الباحثون لتفسير الممانعة العراقية، هل هي بسبب التركيبة العشائرية لمكونات الشعب العراقي؟، أم أن هناك أسبابا أخرى غير ذلك؟.
على الوردي صاحب الكتابات المعمقة حول المجتمع العراقي يعيد تلك الممانعة لمكونات الشعب العراقي وطبيعة الإنتاج التقليدي، فهي في قعرها بدوية، أو كما يقول الريحاني إن البدوي وهّاب نهّاب، به من الصفات الحميدة الكثيرة، وأيضا يحمل من الصفات الأخرى الرافضة للسلطة المركزية الكثير وهو دائم التمرد عليها.
تقول كتب التاريخ إن الشرارة التي أشعلت المقاومة العراقية، وخصوصا في الجنوب، إبان مرحلة دخول البريطانيين إلى العراق في العشرية الثانية من القرن الماضي، كانت فرضهم للضرائب على شيوخ العشائر، وبعد أن رفض بعضهم الامتثال تم حجزهم في سجن قام مناصروهم بعد ذلك باقتحامه، وهكذا اندلعت ما عرف لاحقا في تاريخ الشعب العراقي بثورة العشرين، التي كلفت وقتها عشرين ألفا من الضحايا العراقيين وأربعة آلاف من جنود الإمبراطورية البريطانية.
عرف البريطانيون تماما بعد ذلك كيف يتعاملون مع الشعب العراقي، فجاءوا لهم بملك هو فيصل الأول، الذي نصب ملكا في يوم الغدير، اليوم المبجّل للكل من الطائفتين الكبيرتين في العراق. لم ينجو أيضا الملك فيصل الأول ولا ذريته من القلاقل السياسية، ومن يقرأ مذكرات المرحوم فيصل الأول يجد فيها الكثير من الشكوى حول التعامل السياسي للفئات المختلفة والمتناحرة دوما في عراق السياسة منذ نشأت الدولة الحديثة.
كل هذا التاريخ أفرز مقولة سياسية خاطئة تماما، وهي أن الشعب العراقي بمكوناته السياسية الاجتماعية المختلفة والمتنازعة، لا يسير إلا بالقوة والتخويف. أحد مرتكزات البعث في العراق كان ذلك، تقول أدبياتهم إن الشعب العراقي كسول يخاف من القوة والبطش، ولا يسير بالإقناع. من هنا فان سياسية صدام حسين كانت قائمة على هذا الافتراض الذي لا يتزعزع: البطش دون رحمة أو شفقة أو محاكم أو غيرها من أدوات الإقناع السياسية.
تاريخ حكم صدام حسين قام على ذلك الافتراض، إلاّ أن ذلك الافتراض لسخرية القدر ينتج نقيضه في النهاية، وما تدلي جثة صدام حسين من تحت حبل المشنقة قبل أيام إلاّ الدليل المادي على وجوب التفكير بطريقة مخالفة لسوق العراقيين بالعصي، فلو كانت العصي مفيدة والمشانق ذات تأثير والقتل العشوائي يوصل إلى نتيجة، أي لو كان القمع باختصار يؤدي إلى سلام اجتماعي لكان قد أدى في الحكم الطويل نسبيا لصدام حسين.
إحدى الوثائق القديمة التي اطلعت عليها التي تصف الطرق الشيطانية لتصفية المخالفين في عهد صدام حسين، كتيب صغير لم ينتبه إليه كثيرون، كتبه محمد الحبوبي، وهو وزير سابق لفترة قصيرة في العراق. نشر كتابا صغيرا بعنوان «ليلة الهرير في بغداد»، وهو وصف مخيف لأشكال الاتهام العشوائي والمحاكمات السريعة يقشعر لها بدن الإنسان الذي يتصف بحد أدني من الشعور الإنساني. ولنا فيما وثّق بعد ذلك إلى اليوم أمثلة صارخة لاستخدام «نظرية القمع المطلق» لترويض الشعب العراقي.
قلت ما تقدّم لأصل إلى الفكرة الرئيسية، وهي أن استخدام القمع من جديد، بأشكال مختلفة، لن يفيد العراق والعراقيين على المدى الطويل. الخيار هو استراتيجية جديدة مختلفة عمّا تم في السبعين سنة الماضية أو قريبا منها. المطلب صعب، إلاّ أن الارتكاز على الفلسفة القديمة نفسها هو هباء وجهود تتبدّد في الهواء لا طائل منها، بالنسبة إلى جميع الأطراف المتصارعة في العراق، سواء أردنا أن نصنفها على أساس مذهبي أو طائفي أو عرقي.
كي نكون منصفين، فإن المقارنة بين ما يحدث في عراق اليوم وعراق الأمس من حيث الحريات مقارنة إن ساوت بين الكفتين فهي غير منصفة. اليوم يتحدّث العراقيون في الغالب دون خوف كثير، وينشرون على الملأ وعلى أنفسهم الكثير من الأقاويل السياسية والاجتهادات، إلاّ أن ذلك لا يكفي، والمعادلة المطلوبة هي حرية وسلام اجتماعي، وهي معادلة لابد من الاعتراف بأنها صعبة أو تكاد تكون مستحيلة في الفضاء العراقي، فقد استقر في رأي العامة وربما بعض الخاصة مقولة البعث القديمة وهي «القمع أسهل وأفضل السبل لاستتباب الأمن». وهي وإن كانت معقولة في وقت سابق بعد النصف الثاني من القرن العشرين، إلاّ أنها بالتأكيد لم تعد مقبولة عقلا أو ممارسة في خضم هذه الثورة العارمة من وسائل الاتصال وهدير العولمة.
القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها السياسيون العراقيون اليوم، هي الاقتناع الكامل والشامل بأن لا فئة تستطيع أن تلغي فئة أخرى من الشركاء في الوطن. الأدوات موجودة، فهناك دستور حديث وقوانين معقولة، يبقى التغيير في النفوس، وهو تغيير صعب يحتاج إلى شجاعة أكبر بكثير من شجاعة الاختطاف والقتل بالمفخّخات. يحتاج إلي تبني مقولة «إن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي لأقتلك»، وهي ثقافة لم تتجذّر بعد في فضائنا السياسي العربي، وعلى وجه الخصوص في العراق.
إذا كان ينقص متخذي القرار في العراق تبني سياسة طويلة النفس ومتوازنة، فإن ما ينقص واشنطن شيء آخر، على كثرة ما اعترف قاطن البيت الأبيض بما ارتكب من أخطاء. ما ينقص واشنطن هو «الزمن» أو «الوقت» وهي تبدو أيضا مفارقة كبيرة. فالديمقراطيات الغربية نفسها قصيرة النفس، وهي محصورة بين فترتين، وهما فترات صناديق الانتخاب. ولعلنا نلاحظ أن الضغوط السياسية التي يتبناها المختلفون سياسيا في عواصمهم تؤثر تأثيرا كبيرا على السياسات طويلة الأمد، والتي تحتاج إلى نَفَس طويل، ما ينقص واشنطن هو الزمن. قيل الكثير حول الزمن منذ أن بدأت الحرب العام 2003، قيل أنها تحتاج إلى سنتين، وبالكثير ثلاث، قبل أن يغادر ساكن البيت الأبيض مكانه لساكن جديد! وهو قول لم يثبت خطأه فقط بل وأيضا مضر بالأهداف الكبرى التي جعلت من الحرب وما أعقبها ضرورة سياسية واستراتيجية.
خسائر المنطقة في الفشل كبيرة على العراقيين أولا بكل نسيجهم الاجتماعي، وعلى المنطقة ككل الممتدة من البحر الأبيض إلى الخليج. ما ينقص الحكومة العراقية للنجاح هو الصبر، وما ينقص الحكومة الأميركية لنجاح الخطة هو الزمن، دونهما فان فشل الخطة الثانية للسيد بوش أمر مؤكد. المؤسف انه لا الصبر ولا الزمن متوفر للجانبين!
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1593 - الإثنين 15 يناير 2007م الموافق 25 ذي الحجة 1427هـ