العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ

كتابةٌ في حضور يراد له أن يكون غيابا

اغتصاب المشهد الراهن

لا تحتاج إلى بذل كبير جهد كي تكتشف الفارق بين السراب وجبال السراة. لا تحتاج إلى كبير جهد كي تكتشف الفارق بين أهرام الجيزة وحي الباطنية. لا تحتاج إلى كبير فرق كي تكتشف البون الشاسع بين الحدائق المعلّقة في بابل، وبين صحراء كلهاري.

كل مَثلٍ حضور وغياب، ولكل شاهد من أولئك حضور يقابله: الذروة من الغياب، بل والامعان في المجهول.

الغياب صفة لما لا يُرى، لا يُتحسس، لا يُطال، لا يُلمس، لا يُرى صنعه وصنيعه. فيما الحضور هو على الضد من كل ذلك. لكن المقاييس تحتاج أحيانا الى إعادة نظر في موازينها وأحكامها وتقريراتها، خصوصا إذا مسّت جوانب على قدْر كبير من الحساسية وصعوبة التمثل في جانبه المادي المراد له أن يكون أحد الموازين المعتمدة.

في ساحة مصابة بتفريخ الحضورات المصطنعة، لا بد أن تختلط وترتبك الصورة، ويصاب المشهد بإمساك "قاتل" ...اختلاط واصطناع يتحريان تزوير الصورة والمشهد،ويتحريان العمل على القذف بصورة ومشهد هما في القصي من الواقع، والبعيد عن الحقيقة.

حين قذف الشاعر الكبير خليفة اللحدان في وجوهنا فكرة إفراد ملف لحال الغياب الماثل و"الحاضر" لم يتحر مزايدة ما. نعلم انه أكبر منها بمراحل، ولم يعد بحاجة لإيقاظ فتنتها وإغرائها، لكنه بلا شك كان يتحرى حالا طال التردد في تصويب السبابات اليها، وطال زمن تسمية المتورطين في تراكمها الماثل، وإشاعتها الداعية إلى الريبة.

مع بداية المشروع الإصلاحي تهافتت صحف أمِل كثيرون في أن تسهم ولو بالقدر اليسير في انتشال الغياب من غيابه، قذفا به نحو حضور يليق به، ولكن ما حدث هو أن معظم تلك الصحف عملت على تعميق وتأكيد ضرورة ذلك الغياب لأنه في نهاية المطاف لا يخدم توجهاتها، ويعمل على كشف الكثير من ارتباطها وانتمائها للبؤر التي ترى في الأسماء القادرة على تعميق الحضور بما قدّمته حرجا لها، وكشفا لنواياها، وتفكيكا لمشروعاتها الداعمة والداعية الى الهش والمترهل والبسيط من تلك المشروعات التي لا تخلّف صداعا... قلقا أو ارباكا لها، لأنها لم تعد ولم تخلق من أجل أن تُربك.

هل نتجنى حين تجد المرحلة - قبل أن نجد نحن كمراقبين ومعنيين - أن حضور عدد من الأسماء فيه طعن في صدقيتها وحتى أمانتها التي تلوّح بها للناس؟ هل نتجنى حين نجد في تلك الأسماء أول الأسباب التي تعرّي أميّة وجهل وفقر المغتصبين للمشهد الشعري الراهن؟.

سرد ثلاثة أسماء أو يزيدون يكشف عن ذلك، والقائمة طويلة تمتد من "الجمعية" ولا تنتهي بمركز جدحفص الثقافي، وصولا الى قاعات الخمس نجوم في "الشيراتون" و "الانتركونتننتال".

وإذا ما أردنا أن نصحح - من دون أن نقلّل من هيبة معرفية وشعرية للزميل اللحدان - علينا أن نقر بأن ثمة تغييبا وليس غيابا، اذ لم يتكرّس ذلك الغياب الذي طال: بدر الدوسري، عبدالله حمّاد، خليفة اللحدان، سلمان الحايكي، ابراهيم المقابي، اسماعيل عبدعلي، أحمد مطلق، بدر الرويحي، فاروق عبدالله، يونس سلمان، أمينة الشيخ، الشيخة لولوة آل خليفة، ظما الوجدان، وغيرهم لولا أن مكنة تغييبية لها عناصرها التي تكفلت وتوعدت بنجاح وصفة وفعل ذلك التغييب.

لا يكتمل وينتظم فعل التغييب لأي أمر أو قضية ما لم يكن ذلك الأمر والقضية، بما يرتبط بهما من أفراد، يمثلان خطرا ماحقا وماثلا ومهددا وكاشفا لثغرات وفراغات وفجوات، بل وانهيارات تكاد تطال البنى الرئيسية في ما يُراد تغييبه.

لنتناسى الفرز الذي تعْمد إليه بعض الصحف في تعاملها مع بعض الشعراء والكتّاب، وهو فرز ينتظم وينشدّ لحاسة سياسية بالدرجة الأولى: أن تكون ذاهبا في الولاء بشكل أعمى ومطلق - تماما كموالاتك وإيمانك بالقرآن الكريم، وللذي أنزل على محمد بن عبدالله (ص) أو حتى موالاتك وإيمانك الذي تراه حقا من دون الدخول في تفصيلات لن لن تقدّم أو تؤخّر.

وفي الدرجة الثانية، أن تترك حواسك وخياراتك على عتبة جهة ما كي تتمكن من اجتياز الدهليز للانتفاع بعطايا موسمية لها شروطها الفادحة! شروط هي في الصميم من الغياب الحقيقي والفعلي. غياب يتمركز في التفريق بين الخيار الحر والمبرر، وبين آخر لا يخلو من لوثة الكسل ووباء الانشداد الى العادة والإدمان، والأخير نحن بُراء منه من حصار الليل حتى مطلع الفجر. غياب يقول نصه بعيدا عن المساحات والزوايا وحتى الحوافز. غياب يؤصّل حضوره في ذروة غيابه، فيما كثيرون يعجزون عن إثبات حضورهم، على رغم حشدهم لجهاتٍ وظيفتها جعل الغياب حضورا! غياب تراه في القائم من المكان، والماثل من الزمان، كأنه رأس حربة... كأنه عَلَم على سارية بطول جرح، أو بطول انتظار أحد لا يجئ. غياب يعلمنا أن نحترم اشتراطات حضورنا الإنساني.

قول في غياب "ربيعة"

لعلي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) في ربيعة كلام يمدحهم فيه، ويرثيهم شعرا ونثرا، وقد كانوا أنصاره وأعوانه، والركن من أركانه، فمن بعض ذلك قوله يوم صفين (من البحر الطويل):

لمن رايةٌ سوداءُ يخفقُ ظلها

إذا قيل قدِّمهاحُضيْنُ تقدّما

فيوردها في الصف حتى يعلّها

حياضَ المنايا تقطر الموتَ والدما (1)

جزى الله قوما قاتلوا في لقائه

لدى الموت قدْما... ما أعز وأكرما

وأطيبَ أخبارا، وأكرمَ شيمة

إذا كان أصوات الرجال تغمغما (2)

ربيعةَ أعني، إنهم أهل نجدةٍ

وبأسٍ إذا لاقوا خميسا عرمرما (3)

آخر النص

يالواهمه

أنّك على قيدْ الليالي تقدرينْ...

تتذكّري أنّك عجزتي تكسري

قيدْ الحرير اللي يلفّكْ... تذكرين؟

(1) يعلّها: يسقيها. (2) الكلام الذي لا يُفهم. (3) الخميس: الجيش من خمس فرق، والعرمرم: الكثير العدد.

العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً