العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ

الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون (10-3)

ونلاحظ في هذه الأمثلة: أن هناك فرقا واضحا في اللغة بين أشعار السيرة والأشعار الذاتية التي قالها أشخاص حقيقيون من بني هلال ممن لا يرقى الشك إلى وجودهم التاريخي. لغة أشعار السيرة ابتعدت عن اللغة البدوية وطغت عليها لهجة أهل المغرب، ما يدل على شيوعها بين رواة السيرة من أهل الحواضر منذ ذلك الوقت. أما الأشعار الذاتية فإنها أقرب إلى لغة البادية والعربية الفصحى، وهذا في الأغلب راجع إلى أن شيوخ الهلاليين كانوا ما زالوا يعيشون عيشة البادية، وربما أن بعضا منهم نال قسطا، ولو ضئيلا، من التعليم، بحكم مواقعهم، وكانوا يبذلون جهدا واعيا لتقريب أشعارهم من الفصحى ومجاراة لغة البدو.

ولو صح زعمنا بأنهم متعلمون ، فلربما نستنتج أيضا أن ابن خلدون لم يحصل على هذه الأشعار مشافهة، وإنما أتته من مصادر مخطوطة كتبها ناظموها بخطوط سقيمة تصعب قراءتها. ومن الجائز أن يكون هذا هو السبب فيما تعاني منه هذه الأشعار من اضطراب وتفكك وما نجده من صعوبة في قراءتها وفهمها. من غير المستبعد أن ابن خلدون نفسه لم يكن قادرا على قراءتها قراءة سليمة وتدوينها بشكل صحيح . كانت الهوة قد اتسعت في عهده بين لغة البادية ولغة الحاضرة حيث أصبح من الصعب على أهل المدن والأمصار من أمثال ابن خلدون فهم لغة البدو بسهولة. وهذا بالفعل ما يؤكده ابن خلدون في خاتمة هذا الفصل حين يقول "وأمثال هذا الشعر عندهم كثير وبينهم متداول. ومن أحيائهم من ينتحله ومنهم من يستنكف عنه - كما بيناه في فصل الشعر - مثل الكثير من رؤساء رياح وزغبة وسليم لهذا العهد. ومن المحتمل أن أشعار السيرة التي أوردها ابن خلدون، تمثل النواة التي انبثقت منها فيما بعد السيرة الشعبية، وتطورت عنها وانتشرت في جميع الأقطار العربية. فالقصة التي أوردها مثلا عن الجازية وشكر الشريف لا تزال تروى بنفس الطريقة والأسلوب في بلدان المشرق العربي. وقد لا يجانبنا الصواب إذا قلنا: إن السيرة في عهد ابن خلدون كانت قد تخطت المرحلة الجنينية, أصبحت تقليدا حيا ناميا متداولا في الأوساط الشعبية. وهذا ما يراه الدكتور عبدالحميد يونس الذي يؤكد في كتابه (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي): أن القصائد الهلالية التي أوردها ابن خلدون تمثل الطور الغنائي الخالص للسيرة الهلالية الذي كان سائدا قبل القرن السادس عشر الهجري وتلاه من بعد القرن الثامن الطور القصصي. ويرى يونس أن ما ذكره ابن خلدون في مقدمته وفي تاريخه عن بني هلال قد لا يكون دقيقا من الناحية التاريخية لكنه "يدل بجلاء على أن سيرة بني هلال كانت حية نامية في الناحية الأدبية على الأقل في عهد هذا المؤرخ الكبير". وهناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن السيرة كانت قد بدأت تتشكل أثناء هجرة بني هلال وترحالهم من المشرق إلى المغرب ولم يستقروا هناك إلا وقد اكتمل نموها.

3 - أشعار بدوية من المشرق. بينما يورد ابن خلدون ما لا يقل عن 200 بيت من الشعر الهلالي من شمال إفريقيا، نجده لا يورد إلا ستة عشر بيتا من أشعار البادية في المشرق العربي؛ ستة منها لامرأة قيسية من حوران وعشرة لشاعر من قبيلة الهلبا من جذام في الصحراء المصرية (والهلبا من القبائل المصرية التي يذكرها ابن خلدون في الجزء السادس من تاريخه). يقدم ابن خلدون مقطوعة المرأة الحورانية بقوله "ومن شعر عرب البرية بالشام ثم بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها بعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره" ويقدم القصيدة الأخرى قائلا "ولبعض الجذاميين من أعراب مصر قبيلة هلبا منهم" وهي قصيدة يهجو فيها الشاعر بني قومه الذين لم يهبوا لمساعدته في حاجته بينما يشيد بمن وقفوا معه. وقد أضاف ابن خلدون إلى مقدمته هذه القصيدة الأخيرة في حقبة لاحقة. من المعروف أن ابن خلدون لم يتوقف عن تنقيح المقدمة وتهذيبها طوال حياته. وقد أمضى الحقبة الأخيرة من حياته في مصر واستمر هناك يجيل النظر في المقدمة ويعدل فيها ويحدثها ويضيف إليها ما يستحق الإضافة. وهناك التقي بالشاعر الهلباوي الذي أخذ منه القصيدة المذكورة. ولا نجد هذه القصيدة إلا في مخطوطات المقدمة المتأخرة مثلة مخطوطة Huseyin Celebi 793 المودعة في مكتبة Orhan Cami في Burssa في تركيا، وفي النسخ التي نقلت عنها لاحقا. وناسخ هذه المخطوطة هو إبراهيم بن خليل السعدي الشافعي المصري وتم الانتهاء من نسخها يوم الأربعاء 8 شعبان 806، أي بمدة طويلة بعد وصول ابن خلدون إلى مصر في 1 شوال 784 وقبل سنتين من وفاته العام 808. أما في النسخ المطبوع، فإن هذه القيدة لا تظهر إلا في أقدم نسخة محققة للمقدمة حققها المستشرق الفرنسي إتيان مارك كاترمير Etienne Marc Quatremre سنة1858 وأعي نشرها في بيروت سنة 1970، وكذلك في الترجمة الإنجليزية التي أعدها فرانز زورينتال Franz Rosenthal ونشرها العام 1967. وقد اعتمد Rosenthal على مخطوطة Huseyin Celebi السابقة الذكر بينما اعتمد Quatremere على مخطوطات نسخت من الأصل الذي اعتمد عليه Rosenthal. ما عدا قصيدة المرأة الحورانية وقصيدة الشاعر الهلباوي التي أضافها قبيل وفاته، فإن كل الأشعار البدوية التي أوردها ابن خلدون جاء بها من شمال إفريقيا. هذا يعني أنه أقام فرضية بخصوص علاقة الشعر البدوي بالشعر العربي القديم أساسا على أشعار بدو الصحراء المغربية ، لا بدو الصحراء العربية. ويبدو أن علاقته ببدو الصحراء العربية كانت غير وثيقة ومعرفته بهم غير مباشرة، حيث إن عصره جاء بعد انقطاع رحلات الطلب وبعد أن أصبحت الجزيرة العربية مغلقة وشبه معزولة عن العالم الخارجي، ولم يعد علماء المسلمين ينظرون إليها كمصدر إشعاع روحي وأدبي كما كانت في السابق، ولم يعد رواة الشعر واللغة قادرين ولا راغبين في شد الرحال إلى هناك كما كان يفعل أسلافهم للأخذ عن الأعراب "البوالين على أعقابهم". ولم تطأ قدم ابن خلدون بلاد العرب إلا مرة واحدة وهو في طريقه إلى الحج لكنه لم يمكث طويلا ولم يبذل أي محاولة لاستثمار فرصة وجوده هناك للاحتكاك بالبدو في الحجاز أو نجد والتعرف إلى لغتهم وشعرهم وأدبهم. وعلى العكس من ذلك فإن علاقته ببدو الصحراء المغربية كانت طويلة وكان على اطلاع وثيق بشؤونهم وأحوالهم. ونظير خبرته في هذا المجال لم يكن أمراء المغرب وسلاطينه يستغنون عن خدماته وبعثوه في سفارات إلى القبائل هناك. بل إنه أكمل المسودة الأولى من مقدمته في مدة لا تتجاوز 5 أشهر بينما كان يمضي ثلاث سنوات من العزلة في قلعة ابن سلامة في الصحراء تحت حماية أولاد عارف، شيوخ عشائر السويد من قبيلة زغبة الهلالية. وكان قبل ذلك قد أمضى بعض الوقت مع عرب الزوادة. ولا شك أنه ستقى من هؤلاء الأعراب معلوماته الأولية عن بني هلال وما أورده لهم من أشعار. ومع ذلك فإنه من الواضح أن ابن خلدون حاول أن يتسقصي الوضع في بادية الجزيرة العربية والحصول على ما أمكنه من معلومات عن الأحوال هناك، وأن يتعرف إلى الأسماء المتداولة في شمال الجزيرة وشرقها لهذا اللون من الشعر. التسميات التي يوردها ابن خلدون ليست من اختراعه وإنما كانت متداولة بين الناس في بوادي الجزيرة العربية فسجلها وحفظها. وربما كانت هذه التسميات متداولة بين عرب بني هلال توارثوها من أجدادهم الذين جلبوها معهم من الجزيرة العربية . لكن الاحتمال الأقوى: أنها أسماء كانت شائعة بين المتعلمين والنساخ من أبناء المدن ممن لهم اهتمام بهذا اللون من الأدب وحرصوا على جمعه. وهذا ما نستشفه من قول ابن خلدون: "فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر البدوي والحوراني والقيسي. وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد".

ويورد ابن خلدون هذه الأسماء بصورة مقتضبة وسريعة... مما قد يقود إلى الخلط في المفاهيم بالنسبة للأسماء التي قال بأن أهل المشرق يستحدمونها في الإشارة لما أصبحنا الآن نسميه بالشعر البنطي. أرى أن "قيسي" و"بدوي" من الأسماء التي تطلق على هذا الشعر كفن أدبي، وهو ما يقابل قولنا "نبطي" أو "عامي" و"شعبي". أما "حوراني" فإنه على ما يبدو اسم لحن من الألحان التي يغنى بها هذا الشعر، مثل قولنا "صخري" نسبة إلى الجوف وهذا ما يؤيده قول ابن خلدون في الاقتباس السابق "وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران".

العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً