خلال السنوات الأربع الأخيرة تغوّلت طهران في مشاريع الطاقة الأحفورية بالمستوى الذي أمّن لها حضورا استراتيجيا في القارة العجوز خصوصا وبالتحديد في المناطق المحاذية للشمال الشرقي من القارة، إذ صُدّر الغاز إلى تركيا وبعده إلى أرمينيا ونخجوان بثلاثمئة مليون متر مكعّب، ثم إلى الهند بسبعة ملايين ونصف المليون طن من الغاز، ثم إلى الصين بمئة مليون طن بمدة تزيد عن الخمسة وعشرين عاما وبقيمة تصل إلى سبعين مليار دولار.
قبل أيام أعلن وزير الخارجية الأرميني وارطان اوسكانيان بأن مشروع أنبوب نقل الغاز الإيراني إلى أرمينيا سيتم تدشينه في شهر مارس/ آذار المقبل، بتكلفة تبلغ مئة وعشرين مليون دولار تعهدت طهران بتمويله بالكامل، وهو ما يُشكّل نقلة نوعية في مسيرة العلاقات المتنامية بين البلدين منذ نهاية الثمانينات، واللذين تربطهما أصلا ذاكرة تاريخية منذ وفود الأرمن إلى آسيا الصغرى في القرن الثامن قبل الميلاد، وقتالهم الخالديين قبل السيطرة الروسية عليها في العام 1828.
إيران التي كان لها موقف من الصراع بين آذربيجان وأرمينيا حول إقليم «ناغورنو كاراباخ» مطلع التسعينيات الماضية، كانت تطمح في أن تستقر الأوضاع لتسوية مجموعة من الصفقات التي تُتيح لها الاقتراب أكثر من هذا الإقليم الذي يُحاذي خط أنابيب مهم يربط نفط أذربيجان ببحر قزوين والأسواق العالمية الرئيسية في شمال أوروبا، لكنها عمليا لم تكن سوى داعم حقيقي لأرمينيا في نزاعها الحدودي مع آذربيجان، وهو ما يعني اجترارا للعلاقات الممتدة منذ بداية التسعينات بينها وبين هذا البلد. فصفقات الغاز كانت قد بدأت منذ إبريل/ نيسان 1992، وكان ذلك التعاون في مجال الطاقة بمثابة المُحرّك الرئيسي للآلة العسكرية الأرمنية ضد القوات الآذربيجانية للسيطرة على إقليم ناغورنو كاراباخ.
كما أن الأنباء التي كانت تتردد في تقارير الخارجية الأميركية بشكل دوري لم تكن تغفل ما تقوم به أرمينيا، ومن خلال شركة ليزين العاملة فوق أراضيها، من تزويد الجمهورية الإسلامية بمعدات تدخل في تطوير التقنية النووية، أو تلك الداخلة في تصنيع أجهزة الطرد المركزي، على اعتبار أن أرمينيا كانت ضمن النفوذ السوفياتي الذي مكّنها من توطين تلك التقنية على أراضيها عقودا من الزمن. كما أن يريفان دعمت حقّ طهران في الحصول على الطاقة النووية منذ أن تصاعد التوتر بين إيران والغرب في فبراير 2004 على لسان أمين عام مجلس الأمن القومي الأرميني سرج سركسيان، وقد يكون مردّ ذلك التعاون والتأييد بين البلدين هو الخلاف بين طهران وباكو فيما يتعلق بتأكيد حضورهما في منطقة بحر قزوين الذي تتشاطئ معم فيه كل من روسيا (شمال غرب) وكازاخستان (شمال شرق)، وتركمانستان (شرق).
فإيران ترى بأنها صاحبة الحق من بين الدول المتشاطئة في طريقة الاستفادة من ثروات البحر، وقد نادت من قبل بأن يكون لكل دولة حصة عشرين بالمئة من مساحة البحر، وأيّدتها في ذلك جمهورية تركمانستان فيما رأت آذربيجان سبيلا آخر للحل وهو اتباع قواعد خطوط العرض الجغرافية، وهو ما يُفضي بالتالي إلى حصول كازاخستان على 29 في المئة، وروسيا على 19 في المئة وآذربيجان على 21 في المئة وتركمانستان على 17 في المئة وإيران على 14 في المئة، أي أن المساعي الآذرية ستجعل من إيران أكبر الخاسرين وفق خطة خطوط العرض الجغرافية المُقترحة من قِبَل باكو! بل إن الأخيرة استمرت في عمليات التنقيب أحادية الجانب من حقول شيراق، وآذري، وجونشلي، وشاه دنيز، وبير الله مستقوية في ذلك بعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية.
لكن كل ذلك لم يمنع من أن تقوم طهران بلعب أدوارٍ متعددة اتّسمت بالموائمة والانحياز في أحيان معينة، وفي أحيان أخرى دور الوسيط الذي يُمسك العصا من الوسط كما يحصل الآن في نزاع أرمينيا وتركيا لحل قضايا المطالب الأرمنية والأوروبية، والمتضمنة ضرورة اعتراف تركيا بارتكابها لمجازر إبادة بحق الأرمن أيام الدولة العثمانية راح ضحيتها مليون ونصف مليون أرمني من رعايا الدولة العثمانية. كما أن طهران دخلت على الخط لتسوية نقل القاعدتين العسكريتين الروسيتين في أغالكالاكي وباتومي من جورجيا إلى مدينة غيومري بأرمينيا.
في نهاية المطاف، ينظر الإيرانيون إلى أرمينيا على أنها محور لنشاطهم السياسي والاقتصادي في جوارهم الخارج من الاتحاد السوفياتي ووصلة جغرافية آمنة لشبكة المواصلات بينهم وبين روسيا وجوارها. بل إن من المفارقات أن ذات الوصلة التي تطمح إليها إيران هي نفسها التي تودّ أرمينيا من إيران مساعدتها لإنهاء الإشكال القائم بينها وبين آذربيجان وتركيا للوصول إلى نقط نظام بشأنها. وأيضا ما تُشكله أرمينيا من سوق جيدة ليس آخرها إمكانية بناء محطة طاقة كهربائية داخل الأراضي الإيرانية لتزويد المناطق الحدودية لأرمينيا بها، وكذلك تشييد معبر كاجران في الجنوب الأرميني لنقل البضائع إلى البلدين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ