العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ

عاشوراء وحماية العقيدة

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

أحب أن أوضح أمرين اثنين عن مقالي السابق «على أبواب عاشوراء ارحمونا أيها الخطباء»، في ضوء ما وصل إليّ واطلعت عليه من تعليقات للإخوة الكرام، الذين لم يبخلوا عليّ بآرائهم، بل ساهموا بشكل أو آخر في وضوح الرؤية عندي. الأمر الأول حين تحدثت عن الخطباء، أنا لم أتحدث عن منبر الإمام الحسين (ع)، وليكن معلوما أن الإمام الحسين (ع) وفكره شيء وما يدلي به الخطيب شيء آخر، فيه الصواب وفيه الخطأ؛ لأن الخطيب يتحدث عما يفهمه هو من سيرة الإمام الحسين (ع) التي لا تنفصل عن تأويلات الخطيب وتحويراته وتصويره الأمور. ثم إن حديث الخطباء في أيام عاشوراء يتناول أمورا كثيرة، بعيدة عن سيرة الإمام الحسين (ع) الدينية والثقافية والاجتماعية، ونقدها لا يعني نقدا للمنبر وإنما لخطيب المنبر، أقول هذا لأن البعض بدا له أن يحشرني في زاوية ضيقة جدا - كالعادة - كأنه حسيني أكثر من غيره، وولائي أكثر من غيره، لا داعي لذلك كله وليس لأحد فينا أن يزايد على الآخر، اكتفي بهذا لأضع نقطة على السطر.

الأمر الثاني: ربما يُشَمُ من مقالي السابق التعميم لكل الخطباء، وللحق فإن قصر قلمي عن البيان، في ذلك الموضوع فهنا أقول: إن هناك طبقة كبيرة من الخطباء الواعين والقادرين على تحليل الأمور وفهم الأوضاع، وتوجيهها بحكمتهم المعهودة، ولولا هذه الطبقة الكبيرة لما تمكنت من الحديث والكتابة بتلك الصراحة.

أريد اليوم أن أتحدث عن مصطلح جديد صعد إلى الواجهة كالصاروخ في السنوات العشر الأخيرة، وهو «حماية العقيدة»، وبدأ التداول كما لو أنه شيء ثابت وصلب تفرضه ضرورات دينية، لكن ممارسيه كشفوا بأسرع ما يكون عن أنه سلاح تخويف، يرعب به هذا ويؤدب به ذاك. وبطبيعة الحال، أفرز هذا المصطلح بسبب بعض الصراعات الضيقة والبغيضة تيارا سمى نفسه بطريقة أو بأخرى «حماة العقيدة»، متهما آخرين في عقائدهم وفي ولائهم لأهل البيت (ع)، واستمر متمسكا ومصرا على هذا الاتهام ليجعلهم في مواجهته، بل ليواجههم ويشغلهم وينشغل بهم، ويترك الساحات تائهة في هرج ومرج. وليس خفيا قيام البعض من «حماة العقيدة» بالترصد في الكتب والمقالات والتسجيلات علَّهم يصطادون عثرة هنا أو يتلقفون زلة هناك، فيشنونها حربا شعواءَ تحت شعار مقدس هو «حماية العقيدة».

يقابل هذا المصطلح الذي بدا كما لو أنه شيعي، مصطلح آخر لطالما راج في الوسط السني وهو «العقيدة الصحيحة»، أو «عقيدة التوحيد الخالص»، وما رافقها من تشريك وتبديع وإخراج من الملة لكل مختلف ومتباين مع أفكار هذا التيار أو بعض تفاصيله وجزئياته. وفي اعتقادي، إن هذه المصطلحات هي ضجة مفتعلة تساق في مناطقنا؛ لتصفية الحسابات مع المختلفين؛ واستثارة عواطف الناس هذا ثانيا؛ والتخلص من أي عمل جاد يعالج الواقع القائم هذا ثالثا، وأخيرا... هي نوع من المزايدات على الآخرين بالصياح والصراخ والصوت العالي فقط.

إني أعتقد - وتحديدا في دولنا الخليجية؛ كيلا أتحدّث بما لا أعلم - أن ضجة حماية العقيدة ليس لها داعٍ بتاتا، فنحن لا نعيش هذا التحدّي في مناطقنا، ولا تشعر به الأطياف المتعددة في مجتمعنا مع ما بينها من تباين وبعد.

إن التحدي الذي يصارعه شبابنا هو من نوع آخر، وإن الخطر الذي يواجهونه مختلف تماما عمّا نصرف جهدنا فيه، والفخر كل الفخر هو في أن نتوجه إلى مساعدتهم على تحدياتهم وصراعاتهم الحقيقية، إن كنّا أصحاب قدرة وتأثير ومسئولية. إنه تحدي الجهل والفقر والتخلف والضياع والسقوط في وحل الجريمة، فالمخدرات في تزايد، والسرقات تخيف الناس في بيوتها، وعصابات الشباب التي تتحرك أمام أعيننا في الشوارع من دون أي اعتبار للمجتمع ولقيمه ولمبادئه تكثر يوما بعد آخر، ناهيك عن جرائم الاغتصاب ومصانع الخمور، التي لا تخلو صحفنا اليومية من أخبار الكشف عنها.

أليس مفجعا وغريبا أن محكمة كبرى تستقبل يوميا عشرات الجرائم ومن كل الأنواع والأصناف، ويدخل على قضاتها يوميا عشرات الأشخاص المكبلين بسبب جرائمهم وتعدياتهم على حقوق المجتمع، لكنك لا ترى أولئك القضاة يكتبون عن مكارم الأخلاق ولا عن أسباب الجرائم، ولا عن الأمانة، ولا عما يجب أن يتنبه إليه ويذكره الشهود قبل أن يشهدوا بزور - لا سمح الله - في حين تقرأ كتاباتهم ونتاجاتهم الهشة وهي تتجه وجهة عقائدية غير سوية، وكل همّهم حماية التوحيد وتنقيته من الشركيات كما يدّعون؟

لقد فُقِدَ التوازن عندنا بسبب عجزنا عن مجابهة الجريمة والحد منها، فكان لابد لنا من أي عمل يبرر وجودنا، ويشعرنا بدورنا الديني، وهنا خلقنا حلبة جديدة خلعنا فيها لباس التحدي الحقيقي وارتدينا ألبسة سميناها حماية العقيدة. سل أيها القارئ أي إنسان في مجتمعك، بل اسأل نفسك هل تخاف اليوم على أولادك وإخوانك من انقلابهم من مذهب إلى آخر ومن عقيدة إلى أخرى؟ أم أن خوف كل واحد منا على أولاده في هذا الزمان وهذه الظروف هو من الفساد الأخلاقي وعصابات المخدرات والجريمة والتيه؟

إن حماية العقيدة في مجتمعنا هي بحماية مكارم الأخلاق لشبابنا وتهذيب نفوسهم، وتقويم سلوكهم، وتلمّس الطريق الذي يستنفدون فيه طاقاتهم، ويملأون فراغهم، ويكونون صورة مشرقة وجميلة في أمانتهم وإخلاصهم وعبادتهم وعلاقاتهم والعناية بأسرهم وأهليهم وتحمّلهم المسئولية في أي نقص يشاهدونه في مجتمعهم.

تلك هي القيم والمثل التي يجب أن نزرعها في أولادنا في هذا الزمان حتى نحقق قول الإمام الصادق (ع): «كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا».

إذا، هل نترك الكلام عن عقائدنا وعن أصول ديننا؟ والجواب لا وألف لا، لكن ليس ضمن حلبة صراع، ولا بقسمة المجتمع إلى قسمين وتصنيفهم إلى خندقين، ولائي وغير ولائي، مبدئي وغير مبدئي، حسيني وغير حسيني؛ لأن هذا منطق مغلوط ينسجم مع منطق «أنا خير منه». إن الحديث في كل شيء (العقيدة وغيرها) بحكمة وهدوء وتبصر بالظروف هو عين العقل، وما أرفضه هو تحويل الأمر إلى عنتريات نهايتها صراخ من يتفوه بها، ونتيجتها ليس وعيا عقائديا بل توتراتٍ عقائدية واجتماعية نحن في غنى عنها.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً