حين كثر الهرج والمرج بصورة هستيرية بشأن إعدام صدام حسين، وعلى غفلةٍ من الناس دخل تيار ديني متشدّد على الخط بقوة كان منذ سنوات يكفّر صدام لأنه بعثي. هؤلاء الآن يصرخون عاليا بأن صدّاما قتل مظلوما شهيدا، وامتد هذا التزوير ليعتري فئات أخرى من سلف وغير سلف، ولم يتردد أحدهم في حضور مجلس العزاء الذي أقيم على روحه ورفع صورة هذا الطاغية الذي تسبب برعونته في هذه المآسي الحالية، والتي بدأها بتصريحه الغبي المشهور قبل غزوه للكويت حين قال: إنه سيحرق نصف «إسرائيل» بالكيماوي المزدوج إذا اعتدت على العراق، فعلى إثر هذا التصريح أرسل الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب وفدا التقى الطاغية وحاوروه في سنة غزوه للكويت، ومن خلال الحوار تأكدوا من أن لديه برنامجا لصناعة السلاح البيولوجي والكيماوي فكادوا له كيدا عظيما. ثم ما لبث أن توّج ما جلبه من مآسٍ للمنطقة وهدر لثرواتها واستحكام العداوة بين أهلها بمنعطف غزوه للكويت (أغسطس 1990)، فجلب بجنونه الأساطيل الأجنبية للتمركز في بلدان المنطقة التي رفضت ردحا من الزمان إعطاء قواعد للأميركان. فأي تضليل وتزوير هذا الذي يمارسه هؤلاء في تتويج الطاغية شهيدا للأمة؟ أم أنهم في طريق إكمال المخطط الجهنمي المعد سلفا لإشعال حرب طائفية إقليمية في المنطقة بأكملها؟
وكيف التقى بعض دعاة محاربة المد «الصفوي» المزعوم من المنتمين للبعث مع ذلك التيار الديني، بينما الثاني يكفّر الأول؟ يوجد هدف واحد أجمع عليه الفريقان، فالفريق الأول لا قيمة لحياة البشر عندهم حتى ولو كان بحجم عملاق الفكر الإسلامي محمد باقر الصدر الذي قتله صدام بيده، أما الطرف الآخر فأولويتهم إثارة الفتنة المذهبية. وحين فشل البعثيون في جرّ الأمة خلفهم من خلال إدعاءاتهم تجاه الصفوية الموهومة، وبعد أن أعيتهم الحيل، ووجدوا أن المصلحة تكمن في التحالف مع هذا التيار الديني التكفيري، وصموا المسلمين الشيعة كلهم بالصفويين، فالتقوا بذلك مع مراد هذا التيار الذي اشترط في السابق على صدّام أن يتبرأ من الفكر البعثي حتى ُيرفع عنه حكم التكفير الذي أصدره عليه، ومع أنه لم يتبرأ من البعثية حتى مات، مع ذلك توجته هذه الفئة الدينية المتشددة شهيدا على رقاب المسلمين!
وبدأت مسرحية السخرية من عقول الناس، بمزاعم تدعي بأن صدّاما من أهل الجنة ؛لأنه تشهد الشهادتين في آخر رمق من حياته، مع أن الرسول (ص) رجم الزاني المحصن وقتل القاتل ثم صلّى عليهم ؛لأنهم مسلمون، ولكن جزاءهم كان القتل. ثم ومن أجل دغدغة مشاعر الجماهير، أطنبوا وكرّروا بإعجاب، موقف الطاغية في آخر لحظات حياته، ووصفوه بأنه ثابت الجنان، ويريدون الاستدلال بذلك على صدقيته! وليتهم يقرأون التاريخ حتى يخففوا من هذه الخزعبلات، ففي معركة بدر حين صعد عبد الله بن مسعود على صدر أبي جهل (عمرو بن هشام بن المغيرة)؛ ليجهز عليه، قال له: الحمد لله الذي أخزاك، فردّ عليه أبو جهل: إنما أخزى الله العبد بن أم عبد، ثم استخف به لصعوده على صدره من أجل حزّ رقبته قائلا: «لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا»، وكان الصحابي ابن مسعود (رض) من رعاة الغنم في مكة. وحين قال له: إني قاتلك، سخر منه أبو جهل قائلا: «ليس بأول عبد قتل سيده». وفي روايات أخرى، أنه طلب من ابن مسعود بعد أن يحز رأسه أن يرفعه على رمح رفيع أمام رسول الله (ص)، تكبرا على الحق وإصرارا على الباطل، حتى أن الرسول قارن بين فرعون مصر الذي آمن بما جاء به موسى (ع) حين أدركه الغرق وبين هذا الفرعون الذي ظل معاندا حتى آخر رمق من حياته. فهل أبو جهل على حقٍ لرباطة جأشه وثبات جنانه؟ وهل هكذا يكون القياس؟ ولكنها فتنة ربما افتتن بها بعض كفار قريش دفعتهم للإصرار على باطلهم كما يفتتن بعض المسلمين الآن بصدام.
ومن ذلك أن التيارين استطاعا قيادة الكثير من نخب العرب من كتاب ونقابيين وكوادر حزبية، خصوصا المستفيدين من أموال العراق التي أغدقها عليهم الطاغية طيلة سنوات حكمه، فمن أجل جرّ الأمة خلفهم للمستنقع، ولأن أغلب الأمة من المذاهب الإسلامية السنية الكريمة، لم يتردّد هؤلاء في الإدعاء أن صدّاما قتل نتيجة لهويته المذهبية! بينما هو ينتمي لحزب البعث الذي يتكون من مختلف الفئات، منهم شيعة تسنموا مناصب عليا تدين بالولاء للبعث ولشخص صدّام كسعدون حمادي والصحّاف صاحب مصطلح «العلوج» الأشهر!
قريبا... سيجد هؤلاء أنفسهم في ورطة، فعليهم من الآن البحث عما يغطي سوءاتهم حين تحين ساعة إعدام عوّاد (البندر) رئيس محكمة الثورة في عهد صدّام منذ العام 1983 وحتى حلها العام 1991، كونه ينتمي للطائفة الشيعية.
إن الشهيد محمد باقر الصدر ومئات الآلاف من العراقيين الشيعة، قام صدّام وأعوانه من البعثيين بتصفيتهم، ولم يقتلهم صدّام «السني» ولا علاقة للطائفة السنية الكريمة بذلك. وفي المقابل ؛فان صدّاما نال جزاءه العادل ولكن في وقت غير مناسب، بل إن إعدامه مبكرا قد يجر لتبرئة مجرمين آخرين في المحاكمات القادمة لأغراض لا نعرفها بعد، وهو لم تقتله الطائفة الشيعية، إنما أعدمته الحكومة العراقية المنتخبة التي يشارك فيها مختلف الفرقاء العراقيين.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1592 - الأحد 14 يناير 2007م الموافق 24 ذي الحجة 1427هـ