تضمن تقرير الرقابة المالية السنوي للعام 2005، الذي أصدره ديوان الرقابة المالية في ديسمبر/ كانون الأول 2006 ملاحظات مهمة للمختصين في مجال إدارة الموارد المائية والمستقبل المائي في مملكة البحرين، وتحديدا في مجال خيار إعادة استخدام المياه المعالجة في الري الزراعي كبديل للمياه الجوفية المستنزفة لتخفيض السحب منها ووقف التدهور المستمر لهذا المورد الطبيعي الهام للمملكة. ففي الباب الرابع تحت عنوان «مهمات رقابية ذات طبيعة خاصة» (الصفحات 219-242) تم تقييم أداء مشروع معالجة مياه الصرف الصحي (المرحلة الثانية) من حيث فعالية المشروع في تحقيق أهدافه والتحقق من كفاءة إدارة وتنفيذ المشروع، بالإضافة إلى ملاحظات أخرى بشأن ارتفاع كلف المشروع وتأخر مشروع مصنع السماد المصاحب للمشروع.
يذكر أن تاريخ البدء في هذا المشروع يعود إلى العام 1986 عندما نفذت المرحلة الأولى لمشروع معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها، وانحصرت المرحلة الأولى في توفير المياه المعالجة ثلاثيا لري ما مساحته 650 هكتارا من الأراضي الزراعية في مناطق توبلي وعذاري وهورة عالي والبحير وبوري. وبناء على النتائج الايجابية التي حققها المشروع في مرحلته الأولى في نجاح استخدام المياه المعالجة في الأغراض الزراعية، وزيادة كميات مياه الصرف الصحي (بسبب ارتفاع الطلب على المياه في القطاع البلدي نتيجة لزيادة أعداد السكان وتسارع التنمية الحضرية في المملكة) والتي ستتطلب المعالجة كاشتراط بيئي، وبسبب تدهور نوعية المياه الجوفية ومعها الأنشطة الزراعية المعتمدة عليها في المملكة، فلقد اتخذت الحكومة قرارا بالتوسع في استخدام هذه المياه، وشرعت وزارة الأشغال والإسكان في العام 1997 بتنفيذ المرحلة الثانية من المشروع. وشملت المرحلة الثانية ثلاثة أهداف عامة: 1- المحافظة على مخزون المياه الجوفية بالاستعاضة عن نسبة كبيرة منه بمياه الصرف الصحي المعالجة؛ 2- المحافظة على النشاط الزراعي في المناطق الشمالية والغربية من المملكة؛ و3- تحسين النواحي البيئية والصحية بزيادة المساحات الخضراء وعدم تصريف مياه الصرف الصحي المعالجة ثنائيا في البحر وما قد ينتج عنه من تلوث للبيئة البحرية.
ولتحقيق هذه الأهداف العامة، تم وضع برنامج عمل مكون من عدة بنود، من أهمها: تحسين وتطوير وتوسعة مرافق المعالجة الثنائية والثلاثية والتعقيم لتكون قادرة على معالجة كافة التدفقات الداخلة إلى المحطة من مياه الصرف الصحي لتصل إلى 200 ألف متر مكعب/ اليوم (73 مليون متر مكعب/ العام)؛ ونقل وتوزيع المياه المعالجة إلى 581 مزرعة في المناطق الشمالية والغربية من المملكة لري 2067 هكتارا من الأراضي الزراعية؛ وحفر آبار للطوارئ في حال توقف الإنتاج في المحطة؛ وإنشاء شبكة صرف زراعي في المناطق الزراعية التي ستستخدم المياه المعالجة للمحافظة على التربة من التغدق والتملح؛ وإنشاء مصنع لتحويل المخلفات الصلبة للمياه المعالجة إلى سماد عضوي لاستخدامه في الأغراض الزراعية.
ويشير التقرير إلى أنه برغم من مرور أكثر من 8 سنوات على البدء في تنفيذ المرحلة الثانية للمشروع، وصرف مبلغ 48 مليون دينار، أو ما يعادل 90 في المئة من ميزانيته المعتمدة (53 مليون دينار بحريني)، إلا أن المشروع لم يتمكن من تحقيق أهدافه المنشودة بعد (أي المحافظة على مخزون المياه الجوفية، والحفاظ على الرقعة الزراعية، وحماية البيئة البحرية). ويبين التقرير بأنه على رغم أنه كان مقررا أن ينجز المشروع خلال 3 سنوات فقط، فقد تأخر إنجاز المرحلة الثانية من مشروع معالجة مياه الصرف الصحي لمدة 5 سنوات، ومن المتوقع أن تستمر أعمال المشروع لمدة عامين آخرين، وان تأخير إنجاز المشروع في وقته المحدد واستمرار التأخير في الانتهاء منه يضعف فعاليته في تحقيق أهدافه وخصوصا تلك المتعلقة بالحفاظ على المياه الجوفية.
كما يذكر التقرير أنه بالرغم من رفع الطاقة الإنتاجية لوحدة معالجة مياه الصرف الصحي إلى 200 ألف متر مكعب/ يوم من المياه المعالجة ثلاثيا، إلا أنها تنتج 54 ألف متر مكعب/ يوم فقط، أو ما يعادل 27 في المئة من طاقتها الإنتاجية، وذلك نتيجة لعدم اكتمال البنية الأساسية للمشروع المتعلقة بالنقل والتوزيع، علما بأن الطاقة الإنتاجية لوحدة المعالجة قبل توسعتها كانت قادرة على إنتاج 60 ألف متر مكعب/ يوم. وبلغت التدفقات اليومية من مياه الصرف الصحي الداخلة إلى محطة توبلي للمعالجة 175 ألف متر مكعب يتم معالجة 54 ألف متر مكعب منها ثلاثيا، ويتم صرف الباقي (121 متر مكعب) إلى خليج توبلي بعد معالجتها ثنائيا، مما يسبب تلوث مياه الخليج بحسب ما تشير إليه تقارير الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية.
وبحسب التقرير فإن هناك قصورا في عملية التخطيط للمشروع ما أدى إلى مواجهة مشكلات متوقعة كان بالإمكان تداركها أو تقليل آثارها لو أخذت في الاعتبار قبل تنفيذه، ومن أهمها: عدم تنفيذ بعض الأعمال المرتبطة ببعض بصورة متزامنة بحيث يتم الانتهاء من جميع المراحل في نفس الوقت، ورفض بعض ملاك الأراضي استخدام المياه المعالجة، ورفض بعض أصحاب المزارع مرور الأنابيب وقنوات الصرف الزراعي عبر أراضيهم ما أدى إلى إلغاء إنشاء شبكة الصرف الزراعي بهذه المزارع بدون وضع حل لمشكلة كيفية تصريف المياه المعالجة الزائدة عن احتياجات الري بهذه المزارع المستهدفة، ما سيعرض الأراضي الزراعية إلى مشاكل بيئية خطيرة إذا ما بدأ الاستخدام الفعلي للمياه المعالجة؛ وتحديد مواقع تقريبية للخزانات دون الأخذ في الاعتبار المرافق الأخرى مثل محطات الضخ وآبار التغذية الصناعية للمياه الجوفية وآبار الطوارئ، ما أدى إلى تغيير مواقع الخزانات ومسارات خطوط أنابيب التوزيع الرئيسية والفرعية وبالتالي تأخير إنجاز المشروع؛ وأخيرا عدم تفعيل التشريعات والقوانين ذات العلاقة لتحقيق أهداف المشروع. كما يشير التقرير إلى عدم وجود رؤية واضحة للتعامل مع المنتج الفرعي للمشروع وهو السماد العضوي، ولم تقم إدارة الهندسة الزراعية بإعداد دراسة لتسويق وتوزيع هذا المنتج، حيث سيواجه مصنع السماد صعوبات كبيرة ستؤثر على فعاليته وكفاءته في المستقبل.
ويتضمن التقرير العديد من الملاحظات التفصيلية وتوصيات ديوان الرقابة المالية وردود كلا من وزارة الأشغال والإسكان ووزارة شئون البلديات والزراعة، الوزارتان المعنيتان بالمشروع، وتناولت مواضيع تفصيلية في المشروع، مثل عدم القدرة على توصيل المياه المعالجة لكافة المزارع المحددة ضمن خطة المشروع، وعدم الاستفادة من رفع الطاقة الإنتاجية لوحدة المعالجة الثلاثية إلى 200 ألف متر مكعب/ اليوم، واستمرار صرف مياه الصرف الصحي المعالجة ثنائيا في خليج توبلي وتلوث البيئة البحرية من جراء ذلك، وعدم استكمال إنشاء شبكة الصرف الزراعي، وعدم الاستفادة من آبار الطوارئ، وعدم دراسة المشاكل المتوقعة وإيجاد الحلول والبدائل لمواجهتها، وعدم تفعيل القوانين والتشريعات لتحقيق أهداف المشروع، وعدم إعداد دراسة تسويقية عن إنتاج مصنع السماد، وعدم كفاية جهود التوعية والإرشاد بالمشروع، وغيرها.
ولا تتسع المساحة المتاحة هنا لتناول جميع هذه المواضيع والمشاكل التي واجهت وتواجه المشروع، والتي تعتبر مثالا كلاسيكيا على المعوقات والصعوبات التي تواجه تنفيذ مشاريع إعادة استخدام المياه المعالجة في دول مجلس التعاون وغيرها من الدول العربية، ويمكن اعتبار المشروع كدراسة حالة في مجال إدارة الموارد المائية لاستخلاص الدروس المستفادة منه في الجوانب الفنية/ التقنية والاقتصادية/ المالية والاجتماعية والبيئية التي يجب النظر لها وأخذها في الاعتبار عند تخطيط مشاريع المياه وإدارتها بشكل متكامل وديناميكي. فبالإضافة إلى الكثير من المؤثرات والظروف الخارجية التي واجهت المشروع وساهمت في تقليل فعاليته في تحقيق أهدافه، فإن هناك الكثير من الأسباب الذاتية التي ساهمت في قصور التخطيط للمشروع وإدارته، ومن أهمها تعدد الجهات المسئولة وضعف التنسيق بينها، وضعف القدرات المؤسسية والبشرية، وعدم تطبيق الأدوات التشريعية والتنظيمية، وعدم إتباع المنهج العلمي عند التخطيط للمشروع.
وهذا المقال ليس معنيا بالأسباب الثلاثة الأولى وغيرها، والتي وردت في التقرير بشكل واضح من خلال الملاحظات التفصيلية وتوصيات الديوان وردود الوزارتين المعنيتين بالمشروع، كما أن هناك بعض التطورات التي حدثت في المشروع في العام 2006. إلا أن ما يهمنا هنا هو الموضوع الأخير، الذي لم يذكره التقرير بسبب طبيعته المتخصصة في الرقابة المالية.
فعلى رغم أن الموازنة المخصصة للمشروع بلغت نحو 53 مليون دينار بحريني، فإن مشروعا بهذا الحجم يؤخذ عليه عدم إجراء الدراسات العلمية التطبيقية المعمقة والإجراءات الاحترازية المطلوبة في أكثر من مجال متعلق بإعادة استخدام المياه المعالجة، مثل التأثيرات البيئية بعيدة الأمد لإعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة، والمواصفات والضوابط البيئية لإعادة الاستخدام، والرقابة البيئية المطلوبة لهذه العملية والجهة التي يجب أن تقوم بها.
كما يؤخذ عليه عدم تبني واعتماد المناهج العلمية والتقنيات الحديثة في التخطيط للمشروع في مجال اختيار أفضل المواقع لإعادة استخدام المياه المعالجة، وتحليل العائد المتوقع من إعادة استخدام المياه المعالجة على الخزان الجوفي (نوعيا وكميا) عند تخفيض السحب منه في مناطق البحرين المختلفة، والتي يمكن عملها بواسطة النماذج الرياضية لمحاكاة خزان المياه الجوفية (المعلومات الهيدروجيولوجية والبيئية والتقنية) مع نظم المعلومات الجغرافية (المعلومات الاجتماعية والاقتصادية واستخدامات الأراضي والطبوغرافية) كأدوات مساندة رئيسة في عملية التخطيط، ومن ثم ربط الاثنين بطرق اتخاذ القرار الحديثة مثل بحوث العمليات والأمثلية الرياضية. ويمكن من خلال هذه النماذج الرياضية إجراء العديد من السيناريوهات المحتملة لاستخدام المياه المعالجة مكانيا وزمانيا، واختيار الأنسب منها الذي يحقق المردود الأعلى من حيث تحسين نوعية مياه الخزان وتقليل التكاليف والحفاظ على البيئة, كما يمكن استخدام نماذج المحاكاة الرياضية هذه في تقييم البدائل وفاعليتها في حال تعثر تنفيذ خطط وبرامج المشروع لسبب ما، بالإضافة إلى استخدام نتائج هذه النماذج لوضع مؤشرات النجاح في مراحل التنفيذ والمراقبة من المشروع.
وحاليا، يبدو أنه في ظل التحديات التي يواجهها المشروع، فإن خيار التغذية الصناعية للمياه المعالجة ثلاثيا في الخزان الجوفي يمثل أحد الحلول التي يمكن النظر لها بجدية لرفع كفاءة وفاعلية المشروع لتحقيق أهدافه، وقد يمكنها القضاء على العديد من المعوقات والمشاكل التي تواجهه، مثل عدم الاستفادة من رفع الطاقة الإنتاجية الثلاثية لمحطة المعالجة، ورفض بعض ملاك الأراضي استخدام المياه المعالجة، وتقليل صرف المياه المعالجة ثنائيا في خليج توبلي. إلا أن هذا الخيار، كما ذكر أعلاه، يتطلب إجراء دراسات علمية وحقلية لاختيار أفضل المواقع في الخزان الجوفي لتعظيم الفائدة من حقن المياه المعالجة وزيادة نسبة الاسترجاع لهذه المياه، مع الأخذ في الاعتبار الوضع الحالي لشبكة التوزيع وتوفر المياه المطلوبة لعملية التغذية الصناعية.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1591 - السبت 13 يناير 2007م الموافق 23 ذي الحجة 1427هـ