العدد 1590 - الجمعة 12 يناير 2007م الموافق 22 ذي الحجة 1427هـ

أنا... العربية الجميلة

فادي حدادين comments [at] alwasatnews.com

يبدو لي من الغريب أن يخرج المرء من بين الأموات. لعدة قرون، أثناء رقودي في قبري، شعرت بمدى استهتار بني قومي وهم يتحدثون ويكتبون باسم هويتي وروحي وملكيتي.

أنا، العربية كنز. شجرة عائلتي شبكة هائلة من الأفرع والأغصان: الأدب العربي، القواعد العربية، الخط العربي، عروض الشعر العربي، البلاغة، الشعر التقليدي، الشعر الحديث، والسرد القصصي. أحفادي تفوقوا في مفاصل تاريخية كثيرة في الفن والعلوم والرياضيات والقانون والفلسفة؛ وكلٌ ركز على ميزته النسبية إزاء آخرين من مثقفي ورياضيي وفلاسفة شعوبٍ أخرى، واستفاد من التبادل في مجالات الإبداع الإنساني.

بيد أن ماضيَّ ليس من دون أحزانٍ ونكسات. إني أتذكر بأسى صرخة حافظ إبراهيم نيابة عني ينعى فيها على زملائه مدى ما آلت إليه الحال من عدم احتمال عندما بدأ بعض بني قومي اتهامي بالعجز، وذلك حين قال ردا عليهم:

رجعتُ لنفسي فاتهمتُ حَصاتي

وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي

رَمَوني بعقمٍ في الشباب وليتني

عقمتُ، فلم أجزعْ لقولِ عُداتي

أنا، العربية... مليئة باللآلئ... غُص في أعماقي وانظر كم أنا جميلة. قوّتي تكمن في أدواتي وكلماتي وفن وصف الأشياء في الحياة. ولكن بني قومي أخذوا - للأسف - يستخدمونني بصورة متزايدة لوصف صور مكربة: عنف، وحَرب، ورُعب، ودماء، وأعداء، ومؤامرات، وجلد الذات.

أنا، العربية... أصبحت جميلة في الزمان الماضي؛ لأن بني قومي تُركوا أحرارا للتفوق في إبداعهم وسعيهم إلى وصف الطبيعة؛ يكتبون عن جمال معشوقيهم؛ ويمارسون الصوفية والطقوس الدينية؛ ويستخدمون العقل والمنطق في نشاطاتهم التجريبية اليومية.

أنا، العربية... لا أحتمل التخلف والركود وبدائية اللغة. العامة من بني قومي استخدموني للترحيب بالغرباء والأجانب وأبناء الحضارات الأخرى بكلمات تنطق بالحب والتسامح والاحترام. وهناك آخرون استخدموني سعيا إلى ملاذ من الآخرين، وطلبا للعدالة من الحكام، وصبرا على نوائب الدهر.

أنا، العربية... ترعرعتُ ونضجتُ عندما أدى النشاط الإنساني وتعظيم التفاعل التلقائي - الذي أبدعتُهُ - من خلال فن الترجمة، بيني وبين اللغات الأخرى، إلى وعي بني قومي بمدى تقدم اللغات العظيمة الأخرى في مجالات الكيمياء والقانون والطب والفلسفة والاقتصاد.

أعتقد أن البشر ليسوا عقلانيين دائما؛ لقد أدهشني كيف استخدمني بنو قومي في القرن الماضي - حتى الآن - في ضرب الآخرين. هناك ما يسمى التلفاز والراديو والإنترنت. يا إلهي... إنها إنجازات كبيرة ولكني رأيت فيها بني قومي يجزون رقاب أشخاصٍ آخرين ويهينون آخرين بل حتى مواطنيهم ويشتمون آخرين لا يسيرون في ركاب الدولة، والدين، و «رموز المجتمع»، و «المصلحة العامة». ما أدهشني كثيرا في قبري هو عندما بدأت أرى الانقسام بين بني قومي - كلمات لم أسمعها قط من قبل وأسماء لا أذكر أبدا أني أطلقتها على الأسماء الأولى لأولادي - الطائفية أحد أفراد عائلتي التي أخذَتْ تُطلِق على أبنائها أسماء مثل سنة، شيعة، علويين، و... للأسف، ذاكرتي لا تسعفني هنا... تعرفون كم تسوء الأمور عندما تهرم في قبرك مثقلا بالحزن.

ولكن العالم ليس مجتمعا مغلقا. لقد حقّقت قوى العولمة والتجارة الحرة عجائب لا يستطيع بعض أحفادي مواجهتها: الإنترنت، والتدوين الإلكتروني، ومؤخرا، الآيبود. الناس يستمعون لي في الآيبود! أستطيع أن أرى الفرنسيين وهم يستمعون للموسيقى الجزائرية في شوارع باريس، والبريطانيين يستمعون لعمرو دياب في شوارع لندن، والأميركيين يستمعون لـ «المدرسة الرحبانية» الموسيقية في شارع الحمراء في بيروت. بل إني ابتسمت عندما رأيت زوجين هولنديين يستمتعان بالرقص الشرقي في السفن الليلية في القاهرة (هنيئا لهم!).

يا إلهي، أطفالي الذين يقضون أمسياتهم في التدوين الإلكتروني في عمّان وبغداد والدار البيضاء والبحرين، يستخدمون أرقاما يستخدمها الناطقون بالإنجليزية عندما يريدون التعبير عن أحاسيس لا يمكن أن تكون كاملة من دون الاستعارة من لغات أخرى. خذ ما يلي على سبيل المثال: شابة فلسطينية أرادت، في اتصال لها مع مدوِّن دنماركي، الإسهاب في وصف مدى خصوصية أم كلثوم في عالم الموسيقى العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي فكتبت بحروف لاتينية: «A3TTinee 7urriyyati ATTliKK Yadiyya» (أعطني حريتي أطلق يديّا). أليس هذا مدهشا؟ استعارة الأرقام وتأكيد استخدام الحروف اللاتينية كتكملة لي!

لقد بلغت سعادتي ذروتها عندما علمت في شهر يناير/ كانون الثاني من العام 2006 عن إطلاق موقع عربي كلاسيكي نتيجة لجهود أشخاصٍ من جنسيات مختلفة التقوا معا و «غاصوا داخلي» والتقطوا إحدى لآلئي - مصباح الحرية - لترويج التسامح والتحرر وحرية الرأي والريادية، ونشر كلمة الحرية بين أحفادي.

أضاء الله ليالي بني قومي بملايين «المصابيح» في كل خطوة يخطونها؛ لأني على يقين أن الحياة ستكون جميلة عند الأخذ بنشاطات كهذه.

أنا، العربية، أستطيع أن أركن إلى سلامٍ الآن...

إقرأ أيضا لـ "فادي حدادين"

العدد 1590 - الجمعة 12 يناير 2007م الموافق 22 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً