يمكن أن نقرأ في رفض بوش لتوصيات لجنة بيكر هاملتون بخصوص العراق علامات الخلل العقلي لهذا الرجل. لماذا؟ إن يكن القارئ ضد أو مع توصيات بيكر هاملتون فهذا ليس له تأثير على استيعاب مدى حجم الجنون الذي يسكن عقل هذا الرئيس، ورفضه للتغيير في سياسته. لنرجع أقل من شهرين من الزمن، فلأول مرة منذ 12 عاما يسيطر الديمقراطيون على الكونغرس. وليس هو بسر إذا قلنا ان الناخبين كانوا قد صوتوا في مزيج من انتخابات نصفية واستفتاء على الرئيس والحرب ضد العراق. رفض بوش لتوصيات بيكر هاملتون يمثل مطالبة من جانبه للمؤسسات والكونغرس بالبدء في محاكمته.
إن الكونغرس الجديد لديه تفويض من الشعب وغالبية المؤسسات، ليشمل تيارات رئيسية في الحزب الجمهوري والديمقراطي. ذلك من أجل التخلص من بوش وتشيني قبل أن تحل كارثة جديدة، ويترأس قائمة هذه الكوارث، الانهيار الاقتصادي العالمي وضربة جوية ضد إيران، أما من «إسرائيل» أو من الولايات المتحدة. وكما يقول أحد الخبراء العسكريين المطلعين، «إن الاسلحة النووية غير مستثناة من الاستخدام في مثل هذا الهجوم».
كما نشرت مجلة «إكزكتف إنتلجنس ريفيو» (EIR) قبل أيام من اللقاء الاخير «لمجموعة دراسة العراق» (Iraq Study Group) التي يترأسها جيمس بيكر ولي هاملتون، ذهب نائب الرئيس ديك تشيني إلى الرياض من أجل محاولة تشكيل جبهة من الدول المعتدلة في مواجهة إيران .وتتضمن تحالف الناتو والولايات المتحدة ودول مجلس التعاون زائدا مصر والأردن. وسيشمل هذا التحالف السياسي العسكري «إسرائيل» أيضا. وكما صرحت وزيرة الخارجية الاسرائيلية مجددا أن الصراع اليوم في الشرق الاوسط اختلف عن الماضي، إذ لم يعد صراعا عربيا إسرائيليا، ولا صراعا اسلاميا يهوديا، ولكنه صراع بين المعتدلين والمتعصبين. إنها لمن سخرية القدر أن تسمي «إسرائيل» المذهبية المتشددة بالمعتدلين.
على أي حال، فإن تشيني يريد ان يوجه ضربة استباقية لإيران ليشعل فتنة بين الشيعة والسنة، لتؤدي هذه الفتنة إلى حرب مئة عام دينية، على شاكلة ما حصل في أوروبا من حرب أديان من نحو 1518 حتى 1648. سيكون هذا الصراع في الواقع ليس فقط ضد المصلحة الأميركية الحقيقية، لكن في الحقيقة فإن التكتل الانغلوأميركي الذي يتحكم بديك تشيني سيفرحون بالفوضى التي ستعني تدمير الولايات المتحدة نفسها، كدولة قومية وجمهورية مستقلة، ولإنهاء نظام ويستفاليا للدول القومية المستقلة. وهذا النظام الإمبريالي هو ما يدعى بلغة اليوم «بالعولمة».
بوش في دعمه المخلص لتشيني، رفض مسبقا التوصيات الأكثر أهمية من بيكر وهاميلتون. ففي قمة الناتو التي عقدت في عاصمة لاتفيا، ريغا، نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، رفض بوش الحوار مع طهران ودمشق، كما رفض أيضا الانسحاب من العراق قائلا إن «النصر هو المخرج الوحيد»!
في السادس من ديسمبر/ كانون الأول أصدرت «مجموعة دراسة العراق» تقريرها المكون من 96 صفحة، واحتوى على 79 توصية. إذا أخذنا التقرير ككل فإنه يدعو من أجل تغيير إجمالي للسياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة جنوب غرب آسيا.
في لقاء أجراه عالم الاقتصاد والسياسي الأميركي ليندون لاروش، مع دبلوماسيين في واشنطن عقب إصدار تقرير بيكر هاميلتون، عبر لاروش عن توجسه تجاه بعض العناصر الناقصة في دراسة الوثيقة، وذلك يتضمن الإخفاق في ملاحظة الانهيار المتسارع للنظام المالي العالمي - على رغم هذا فإن هذا التقرير يمكن اعتباره مطلبا مؤسساتيا لتغيير كبير في السياسة الأميركية. وكتب لاروش: «لقد عرّف تقرير بيكر هاميلتون استراتيجية عالمية جديدة. إنه ليس بعمل متكامل، لكنه يحدد معايير استراتيجية أساسية في إطار بديل للسياسات الفاشلة، وتصميم لسياسة جديدة. تقرير هذه اللجنة سيتردد صداه في أميركا الشمالية وأوروبا، إذ إن الحالة الآنية في جنوب غرب آسيا وجهود السياسات الفاشلة على صعيد الحالة المادية للحكومات هي مؤلمة جدا... إذا اخذنا تقرير بيكر هاميلتون في السياق، فإنه يحدد حالة عالمية جديدة، من أجل البناء السياسي. باعتقادي سيكون تأثيره دراميا ومبكرا».
هل عاد بوش للشرب مجددا؟
لم يكن رد بوش مفاجئا للجنة. ففي أقل من 24 ساعة رد بوش قائلا: إن «ايران وسورية تعلمان ماذا عليهما أن تفعلا».
في محادثة صريحة مع صحافيين قبل يوم من تصريحات بوش، استهزأ اثنان من أعضاء «لجنة دراسة العراق» برفض بوش للتباحث. إنه ليس من المبالغة إذا قلنا ان تعليقاتهم تمثل دعوة ضمنية لإزاحة بوش من المنصب. فبعد أن سئل عن رد بوش على تقديم تقرير بيكر - هاميلتون، قال لورنس ايغلبيرغر (وزير خارجية بوش الأب): «رد فعله كان وكأنه يقول لنفسه «أين كأس شرابي؟»! في إشارة إلى الشراب.
إذا أخذنا في الاعتبار أن علاقة الرئيس بالكحول، أنها معروفة ومسألة حساسة للغاية في عائلة بوش، فإن تعليقات ايغلبيرغر لا يمكنها أن تكون أكثر استفزازا من ذلك.
وأقرت بعض المصادر المقربة من أعضاء اللجنة لمجلة (EIR)، بأن «مجموعة دراسة العراق» كانوا يعلمون بأن الرئيس سيرفض مخططهم من أجل إصلاح سياسي. والتقت اللجنة ببوش لمدة ثلاث ساعات، قبل شهر من إصدارها التقرير. وبعد خروجهم من مقابلة بوش كانوا مصممين على طرح الموضوع في نقاش سياسي مفتوح، آملين أن يضغط ذلك على البيت الأبيض لتصحيح مسار السياسات.
في الحقيقة فإن التقرير فاجأ الكثيرين من الخبراء بلغته الصريحة، فهو يركز على المفاوضات مع إيران وسورية والحاجة الماسة إلى حل المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية. ويرفض بالمقابل مخطط إدارة بوش الذي يتحدث عن صراع سني شيعي، ويقول التقرير إن توجه إدارة بوش نحو تكتيل الدول العربية (المعتدلة) كان ضيقا جدا ولن يحل المشكلة العراقية.
إن الأعضاء في لجنة بيكر هاميلتون يمثلون شريحة عامة من المؤسسات الأميركية. وجميعهم تقريبا خدموا في السلطة التنفيذية، أو في مركز رفيع في الكونغرس، وكانت لديهم تجربة مباشرة مع رؤساء الولايات المتحدة. حينما يوجه فريق مثل هذا، ذو اعتبار ومستوى، انتقادات حادة لسياسة إدارة ما في بلدٍ مهم في العالم، فإن هناك عواقب لرفض الاستجابة للانتقادات. وقد كشفت مصادر مطلعة أن البيت الابيض سيماطل ويتباطأ حتى ربيع 2007 قبل رفض واضح للتقرير.
إن العراق يحترق جديا في خضم تطهير عرقي، والحروب الأهلية على وشك الانفجار في لبنان وفلسطين، التي يتم إشعالها عبر العمليات السرية الانغلوأميركية وتجارة الأسلحة. ويرتبط توقيت شهر مارس بتوقيت الضربة ضد إيران، ما يفسر أيضا إعلان جون أبي زيد مسبقا أن استقالته (تقاعده) ستدخل حيز التنفيذ في ذلك الشهر.
هناك جواب واحد لرفض بوش وتشيني لتوصيات «مجموعة دراسة العراق»: المحاكمة. بدعم من جهود بيكر هاميلتون، فإن الكونغرس لا يمكن أن يضيع أي لحظة. عمليات التحقيق والاستجواب لتحديد مسئولية أقطاب الإدارة يجب أن تبدأ منذ دخول الكونغرس الجديد في الرابع من يناير 2008.
إقرأ أيضا لـ "علي شرف"العدد 1590 - الجمعة 12 يناير 2007م الموافق 22 ذي الحجة 1427هـ