تاريخٌ من القمع وعنوانٌ للتعسف والقهر والإذلال وكسر إرادة المناضلين والبطش بهم طوال سنوات الاحتلال البريطاني، ثم على مدى عقود من القمع والتنكيل تحت ظل قانون أمن الدولة ومحاكم أمن الدولة سيئة الصيت والسمعة، التي ذهبت غير مأسوف على شبابها.
كم من المواطنين مر على أقسام القلعة؟ وكم منهم نزف حتى الرمق الأخير... ملقيا نظرته الأخيرة على جدرانها القاسية، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى وفي حلقه غصة ومرارة، وفي عينه دمعة حزن تجمدت في المحاجر، وهو يودع الدنيا تحت بطش محقق مرتزق أو عميل لم تعرف الرحمة والشفقة الطريق إلى قلبه أبدا؟
داخل أسوار القلعة، كان تسرح أشكال من المرتزقة والعملاء والمخبرين، الذين لم يكونوا يهتمون بإنسانية الإنسان، ولم تكن صرخات سجناء الرأي من كل أطياف وألوان العمل السياسي تعني لهم شيئا، سوى الشعور بالنشوة واللذة، وهم يرون دماء تسيل، وعظاما تتكسر، ورؤوسا تتهشم، وعيونا يذهب عنها البصر، فلا يزيدهم ذلك إلا إمعانا في الأذى وإصرارا على ارتكاب الجرائم في حق الإنسانية والوطن.
وها نحن بعد سنوات من إلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، نرى بلادنا تعيش مرحلة جديدة من التعايش والقبول بمبدأ الخلاف والاختلاف. مرحلة كشفت زيف وخداع من نظّر لقانون ومحكمة أمن الدولة، من قال إن القمع ضرورة للحكم، ومن قال إن البطش وافتتاح السجون والمعتقلات أمر لابد منه حتى تعيش البلاد في أمن وأمان!
لقد مرت السنوات الأربع الماضية من دون قانون أمن الدولة، فلم يتحسر عليه أحد، ولم تحتج الدولة إليه حتى تبني سياستها أو تضمن أمنها. ولعل من اللافت أن هذه السنوات كانت هي الأصعب، والأكثر في مجال الحشود الجماهيرية المختلفة مع الكثير من التوجهات الحكومية، وعلى رغم ذلك لم تستدعِ الحاجة إلى قانون الطوارئ ومحاكم أمن الدولة.
نعم، لقد اكتشف الجميع أن ذلك كان مجرد وهم وخيال مريض، جعل الوطن يخسر الكثير من الكفاءات المخلصة التي كانت تريد الخير لهذا الوطن، وتتطلع إلى غد مشرق من التعايش والتواصل بين الحاكم والمحكوم، فإذا بها تواجه بالعنف المؤدي إلى الاستشهاد والموت تحت سياط الجلادين عديمي الرحمة والضمير.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الكثير من المناضلين وأسر الشهداء لا يمكن لهم أن ينسوا ما وقع عليهم من مصائب وقهر، كان عنوانه الرئيسي هو القلعة التي لاتزال شاهدا على حجم المآسي والآلام التي عانها الكثير من أبناء شعبنا. والسؤال الذي يبحث عن إجابة: هل تبقى القلعة رمزا للقمع أم يمكن تحويلها إلى رمز للتسامح والتعايش؟
وسواء اعتبرت القلعة رمزا من رموز الإرهاب الفكري ومصادرة حرية العمل السياسي وحرية التعبير والاختلاف في وجهات النظر، أو اعتبرت ساحة نضال وصمود وموقع استشهاد لكثير من المناضلين الذين اجبروا على قضاء سنوات من زهرة شبابهم بين زنازينها وأسوارها الغليظة، فإن دور هذه القلعة يجب أن يتغير؛ ذلك أن احتلالها كل هذا البعد في الجانبين الرمزي والمكاني لم يعد له ما يبرره.
ولعل من المفيد التفتيش عن بدائل مناسبة للدور الذي يمكن أن تقوم به القلعة، وهنا أوجه الدعوة إلى المهتمين بهذا الموضوع للبدء في التعاطي مع الموضوع بجدية، وعلى سبيل المشاركة في إثراء النقاش أطرح عددا من التصورات والمقترحات في هذا المجال.
أعتقد أن بالإمكان تحويل القلعة إلى مشروع إسكاني كبير يتم من خلاله تخفيف الازدحام والتكدس الحاصل في أحياء المنامة، وبالتالي المساهمة في حل مشكلة الإسكان والهجرة التي تعانيها العاصمة باعتبار أن الكثير من أبنائها قد غادروها بسبب ضيق المساحات السكنية المتوافرة بها. وهنا لا بأس من التفكير في أن يكون المشروع الإسكاني المقام على أرض القلعة مشروعا نموذجيا يراعى في توزيعه تمثيله مختلف الشرائح المجتمعية والمذهبية والدينية.
إننا هنا يمكن أن نجعل من مشروع القلعة الإسكاني نموذجا من التعايش والتواصل المجتمعيين، حتى تساهم القلعة في رأب الكثير من التصدع الذي عاناه مجتمعنا، كما يمكن أن يخلّد المشروع الإسكاني في القلعة عددا من أسماء المناضلين الذين سقطوا شهداء يدافعون عن حرية الوطن وكرامة المواطن، من خلال إطلاق أسمائهم على الأحياء أو الشوارع أو الحدائق والساحات والمشروعات العامة التي يضمها المشروع الإسكاني.
القلعة يجب أن تتحول من رمز للقمع إلى رمز لحرية الرأي والانفتاح. وهنا فإن بالإمكان تشييد متحف يضم مقتنيات وحاجيات عدد من المناضلين الذين سقطوا شهداء في أقنية الظلم والقهر داخل القلعة. كما يمكن أن تضم بعضا من الأعمال الفنية والأدبية التي أنتجتها أيادي وعقول المعتقلين السياسيين الذين تبلور وعيهم واشتد عودهم بين زنازين القلعة، وسطروا بداخلها أروع ملاحم الصمود وقوة الإرادة.
كما أن بالإمكان تحويل القلعة إلى متنزه وطني كبير ومتنفس سياحي يتنفس من خلاله أبناء الوطن وزواره وضيوفه نسيم الحرية ويتجولون في أقسام القلعة التي كانت في يوم من الأيام عنوانا للقمع وانتهاك حقوق الإنسان. لقد آن الأوان لأن تتغير معالم القلعة، وتنتقل وزارة الداخلية من هذا المبنى الكريه حتى تتوافق النظرية مع التطبيق، وتستطيع مختلف أقسام وزارة الداخلية أن تتعايش وتتكيف مع الدور الجديد والفلسفة الجديدة التي تريد أن يتقبلها الناس وفقها.
لقد أقدمت وزارة الداخلية على تغييرات جديدة خاصة تحت قيادة وزير الداخلية الحالي الذي يسعى جاهدا إلى تقديم مفهوم مختلف لدور وزارته، ولا ريب أنه نجح إلى حد كبير في تغيير جزء كبير من نظرة الناس وتعاطيهم مع أفراد وقوانين ودور الوزارة، بدءا من طريقة تعاطي الوزارة مع الحوادث، مرورا بالدور الذي تقوم به في حفظ الأمن في الفعاليات السياسية، وصولا إلى تركيبة الوزارة وتوجهه إلى بحرنتها وفتح أبوابها أمام المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والعرقية وانتهاء حتى بتغيير ألوان سيارات الوزارة ولباس منتسبيها.
إن هذا التوجه لا يمكن أن يكتمل، ولا يتماشى بأي شكل من الأشكال، مع بقاء القلعة على ما هي عليه، وما تمثله من ذكريات مؤلمة في ضمير ووجدان وذاكرة الأجيال المتعاقبة في البحرين. لذلك فإنني أطالب بتشكيل لجنة وطنية لدراسة وضع القلعة، وبحث أفضل المقترحات لتحويلها إلى ماضٍ نتذكره فقط من أجل الترحّم عليه، وليس من أجل أن نعيش لحظات التوجس والخوف من عودته، مع كل ما يمثله من هلع وجزع ورعب واضطهاد.
إنها دعوة صادقة إلى أن تتحول القلعة من رمز للقمع، إلى رمز للتسامح والانفتاح، من شاهد على عصر التنكيل والإرهاب إلى شاهد على عصر الإصلاح والتواصل مع الشعب بكل مكوناته الاجتماعية والسياسية!
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1590 - الجمعة 12 يناير 2007م الموافق 22 ذي الحجة 1427هـ