يمكن تلخيص مصالح الهند من وراء عقد مثل هذا الاتفاق في النقاط الآتية:
اكتساب الشرعية الدولية لبرنامجها النووي من دون أن توقع على اتفاق منع انتشار الأسلحة النووية. وتكون بذلك قد رسخت السلوك المتبع تجاهها من قبل الغرب وهو غض الطرف عن برنامجها النووي بمكوناته العسكرية والمدنية، وذلك في إطار تحقيق التوازن مع جارتها الصين، الخصم العنيد للغرب وصاحبة الانتصار على الهند في مطلع الستينات، والحائزة على إقليم التبت الهندي منذ ذلك التاريخ. من جانب آخر، أعطى هذا الاتفاق تصريحا لحصول الهند على توقيع اتفاقات مماثلة مع دول أخرى بعد أن وقعت مع أميركا هذا الاتفاق. وبالتالي سينفض عنها هذا الحظر للحصول على تكنولوجيا الغرب المتقدمة في هذا المجال. وفعلا وقّعت الهند مع فرنسا اتفاقا للتعاون النووي في فبراير/شباط 2006، والتي بدأ الطرفان التفاوض بشأنها في العام 2003، وإن كانت فرنسا اشترطت أن يكون هذا التعاون في ضوء التزامها النووي الدولي.
السعي لتحقيق حد أدنى من الذاتية،من دون الخضوع للابتزاز الأميركي، فعلقت شرط خضوع مفاعلاتها المدنية لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية بقيام أميركا بالوفاء بالتزاماتها في الاتفاقية بتقديم التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية حسبما اتفق عليه، وأن إخلال أميركا بهذا الشرط يعطي بالنسبة للهند الحق في رفض تفتيش الوكالة الدولية.
الاحتفاظ الكامل للهند بالسيطرة على برنامجها العسكري والذي سيضم نحو 7 مفاعلات، وأن المفاعلات المشتركة من حيث الاستخدام (عسكري - مدني) سيتم إخضاعها لإشراف وكالة الطاقة الذرية على مراحل تنتهي في العام 2014؛ وهو ما يعطي الفرصة للجانب الهندي لاختبار مدى الالتزام الأميركي خلال هذه الفترة. الحصول على مصدر رخيص للطاقة يمكنها من الاحتفاظ بتقدمها الاقتصادي؛ فالهند تعد ثاني أقوى اقتصاد آسيوي بعد الصين، وتشترك معها في كونهما أكبر مستهلك ومستورد للمواد الخام على مستوى العالم. فنفوذ الهند في أسواق المواد الأولية يزداد تدريجيا مع تحقيقها لمعدل نمو نسبته 7 في المئة سنويا، ومع حاجاتها التي تشهد ارتفاعا مستمرا، بدأت الأسواق تشعر بحاجات الهند الكبيرة جدا؛ وهو ما ساهم في ارتفاع كبير في الطلب الآسيوي على المواد الأولية في السنتين الأخيرتين. ويلاحظ أن الهند تحصل على نحو 4 في المئة من حاجاتها من الطاقة عن طريق مفاعلاتها النووية، ويستهدف هذا الاتفاق أن تحقق الهند نحو 25 في المئة من احتياجاتها من الطاقة في العام 2050 من خلال المفاعلات النووية بفضل الحصول على التكنولوجيا الأميركية.
يشار الى أن هذه ليست المرة الأولى التي تقدم فيها أميركا ودول غربية مساعدة من هذا النوع للهند؛ بل اعتمد البرنامج النووي الهندي بشكل أساسي منذ بدء نشاطه على كل من فرنسا وبعض الدول الأوربية الأخرى وأميركا، ولكن هذا التعاون توقف منذ 33 سنة عندما أعلنت الهند عن أول تفجيراتها النووية في العام 1974. وتشير بعض التقارير إلى أن الهند تمكنت في الفترة ما بعد العام 1995 من الحصول على أنظمة أمان نووي من أميركا، وكذلك أجهزة كمبيوتر متقدمة في هذا الخصوص، وتقنيات الربوت للمعاهد النووية الهندية؛ إذ يتم إنتاج المواد النووية الانشطارية، هذا فضلا عن تدريب نحو 814 كادرا من كوادرها العلمية في المعاهد الأميركية. وبحصول الهند على مصادر للطاقة تمكنها من مواصلة تقدمها الاقتصادي سيزيد من قدرتها التنافسية في السوق العالمية، وخاصة أنها في سباق مع جارتها الصين في هذا المضمار أيضا.
لقد حاربت الولايات المتحدة لعقود عدة انتشار الأسلحة النووية، وعملت دولا أخرى أن تحذو حذوها. واليوم، ومع تغيير أميركا لموقفها من القضية، قد تعتبر أي اتفاقية سابقة خاصة بحظر انتشار الأسلحة النووية غير سارية المفعول. وبالتخلي عن هذا الموقف، فقد فتحت الولايات المتحدة الباب لوضع استثناءات أخرى باعتبار أنه، عاجلا أم آجلا، سترغب دول أخرى في عقد صفقات على غرار صفقة الهند. فعلى سبيل المثال، خضعت برامج الأسلحة «غير الآمنة» في الماضي في كل من جنوب إفريقيا والبرازيل والأرجنتين للعقوبات الأميركية وحرمت من الوقود الأميركي، الأمر الذي مارس دورا كبيرا في اتخاذ تلك الدول قرارها بالانضمام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة. وكما أشار أحد المتحدثين أنه «الآن» ومع هذه الصفقة الجديدة «نضيع الثقة بيننا وبين هذه الدول». وفضلا عن ذلك، فإن من شأن الصفقة الأميركية الهندية أن تجعل التفاوض بشأن منع نشر السلاح النووي مع دول مثل إيران وكوريا الشمالية أكثر صعوبة.
وعلى رغم أن الصفقة النووية بين الولايات المتحدة والهند ستسمح بتفتيش دولي واتخاذ ضمانات أمان في 14 مفاعلا وصفتها الهند بأنها مدنية، فستبقى ثمان منشآت عسكرية خارج حدود أي رقابة. وفي المقابل، ستوافق الولايات المتحدة على تصدير التكنولوجيا النووية والوقود إلى الهند. وقد اتفق المتحدثون على أهمية تقوية العلاقات الأميركية الهندية، لكنهم رأوا أنه يمكن القيام بذلك دون الحاجة لتعاون في مجال الطاقة النووية.
الكثير من القوى السياسية داخل الولايات المتحدة نظرت إلى الصفقة النووية بصورة سلبية، ورأت أن لها تأثيرات سلبية على موقف واشنطن من سياسة الانتشار النووي، وما يمكن أن تمثله هذه الصفقة من إعطاء إشارات لدول أخرى بالمضي في الطريق النووي، طالما أنه من الممكن الاعتراف بها بعد ذلك كلاعب عالمي رئيسي في الساحة النووية وعدم تعرضها لأية عقوبات نتيجة امتلاكها السلاح النووي المحظور على غير الدول الأعضاء في النادي النووي، وبصفة خاصة باكستان، التي ستطالب حتما بمنحها نفس المزايا الممنوحة للهند.
وبالتأكيد، فإن رفض واشنطون لمطلب باكستان، سيزيد من المشاعر العدائية لها بين الشعب الباكستاني، وربما بين أعضاء الحكومة ذاتها، بما يؤثر سلبا على فعالية الحرب التي تديرها واشنطون ضد ما يسمى بالإرهاب، والتي تعد باكستان لاعبا رئيسيا فيها.
لكن الأهم من باكستان، هو طهران، إذ لابد وأن تنعكس نتائج هذا الاتفاق على مصالح الهند الحيوية مع إيران، والتي تتمثل أساسا في إمدادات الطاقة التي تزودها بها طهران من النفط والغاز الطبيعي، وتداعياتها على علاقاتها الإستراتيجية مع واشنطن، فإن تصويت الهند لصالح القرار المقدم من واشنطن لوكالة الدولية للطاقة الذرية في 24 سبتمبر/ايلول 2005، والذي أدان إيران لعدم امتثالها لمعاهدة حظر الانتشار النووي, لم يكن يستهدف بالأساس معاقبة إيران، بقدر ما كان تعبيرا واضحا عن المشكلات التي تواجهها سياسة الهند الخارجية، فالهند بحاجة شديدة إلى إمدادات النفط والغاز الإيرانية، ولكنها لا تريد في نفس الوقت أن تتسبب في توتر علاقاتها بواشنطن. ولأنها تمتلك السلاح النووي، فإنها ليست في وضع يمكنها من نصح الآخرين بالتخلي عن هذا السلاح، وخاصة إيران، لاسيما في ظل انتقاداتها المستمرة منذ عقود للمجتمع الدولي بعجزه عن ضمان الاستخدامات السلمية للطاقة النووية للدول الموقعة على معاهدة منع الانتشار النووي.
وفي نفس الوقت فإن الهند غير قادرة على أن تعلن تأييدها لطموحات إيران النووية بسبب تعهدها منذ إجراء تفجيراتها النووية العام 1998 بألا تكون مصدر دعم لانتشار التكنولوجيا النووية. ومنذ ذلك التاريخ رفضت أن تحذو حذو الصين وباكستان في تقديم المساعدة النووية لأطراف ثالثة، أو أن توصي أيّ بلد آخر بالسير في الطريق النووي، كما أن الهند رغم مصالحها الحيوية مع إيران، لا تعتبرها حليفا نوويا محتملا لها، بل على العكس فإن برنامج إيران النووي وما تملكه من قذائف للصواريخ المتطورة يمكن أن يشكل تهديدا لأمنها ولهذا فإن الهند لا يمكن أن تؤيّد طموحات إيران النووية, ولا تستطيع في نفس الوقت ألا تبالي بها.
وعندما عرضت الولايات المتحدة على نيودلهي قبل عامين توقيع اتفاقية مشتركة للتعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، مقابل إلغاء اتفاقية الغاز المبرمة مع إيران والتصويت لصالح القرار الأميركي ضد طهران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم يكن أمام الهند سوى قبول هذا العرض الأميركي المغري. ولم تمض ساعات بعد تصويت الهند لصالح مشروع القرار الأميركي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية حتى أعلنت إيران استيائها وهددت بإلغاء الاتفاقية المبرمة مع الهند من جانب واحد.
وقد مثلت زيارة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينج لواشنطن في يوليو/ تموز 2005 بداية تفعيل أجواء التقارب بينهما. ذلك أنها تمخضت عن اتفاقهما على التعاون في المجالات النووية السلمية ترسيخا للمشاركة الاستراتيجية بينهما. فكان الخطاب المشترك لقيادة الدولتين بمثابة وثيقة إطارية للخطوط العريضة لتلك الشراكة، التي جاءت كخطوة على طريق التهدئة لعقد من التوترات، إدراكا من الطرفين للمصالح المشتركة التي باتت تجمعهما.
ويمثل التعاون على الصعيد الأمني، أهم التطورات على الإطلاق في مجمل العلاقات الأميركية - الهندية، مقارنة بما كانت عليه في ذروة الحرب الباردة. وثمة جملة من الدوافع التي ساعدت على هذا التقارب، لعل أهمها توافق مصالح الطرفين في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا من ناحية، وحرص قادة الهند على سلامة ممرات الاتصال المائية بالمحيط الهندي لتأمين وصول وارداتهم من الطاقة لمقابلة احتياجات اقتصادهم المتسارع النمو من ناحية أخرى. ومنذ العام 2003، بدأت الدولتان تتجهان نحو رفع المزيد من القيود التي كانت الولايات المتحدة الأميركية قد وضعتها على التعاون في المجالات الدفاعية والتجارية بينهما. وبمقتضى اتفاقية الشراكة الاستراتيجية NSSP التي تم إعلانها في يناير/ كانون الثاني 2004 واستكملت في 2005، قامت الهند بتعديل الإطار العام الذى يحكم استخدام وتصدير التكنولوجيا الحساسة، بما يسمح للولايات المتحدة الأميركية برفع الكثير من القيود على تصدير تلك المواد إلى الهند. وفي مارس 2005، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، عن نيتهما السماح للشركات الأميركية بإبرام عقود توريد شحنات من الطائرات النفاثة المقاتلة إلى الهند، فضلا عن الاستعداد الأميركي لإجازة الإنتاج المشترك لتلك الطائرات في الهند. الأمر الذي يعد انقلابا خطيرا في النهج الأميركي لسياسات التراخيص، حيث تعد تلك السابقة الأولى من نوعها التي تسعى فيها الشركات الأميركية بشكل جدى من أجل إبرام عقود للتدابير العسكرية الرئيسية للهند.
وبالإضافة إلى الجوانب العسكرية والأمنية، كانت هناك الجوانب الاقتصادية، فعلى الصعيد الاقتصادي، شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية، مزيدا من التقارب الودي في هذا الصدد، مع بداية عولمة الاقتصاد الهندي. حيث تحصل الولايات المتحدة الأميركية على ثلثي صادرات الهند من البرمجيات Soft ware، والتي تنمو بمقدار 50 في المئة سنويا. وتمنح الولايات المتحدة الأميركية تصريحات عمل تصل إلى حوالي الثلث لرعايا الهند الذين يحملون جوازات سفر مؤقتة، ويشكلون قدرا وافرا من قوة العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات. كذلك تمثل طائفة الهنود الأميركيين، ذات الثراء المتنامي لوبي مؤثرا، يمارس ضغوطا في واشنطن لصالح الهند، ثم تصب استثماراتهم في وطنهم الأم.
وعلى الرغم من تلك التطورات الإيجابية، إلا أن عائدات النشاط التجاري الخارجي للشركات الأميركية، تفجر بين الحين والآخر جدلا واسعا، في ظل وجود قوى محلية غير راضية عن ترحيل بعض الوظائف الأميركية إلى أسواق العمل الرخيصة، كالهند.
وفى ذات السياق، تبدو التجارة الثنائية الأميركية - الهندية محدودة النطاق مقارنة بتلك الأميركية- الصينية، وإن كانت فى طريقها للنمو. فطبقا للإحصاءات التجارية الهندية، قفز حجم التبادل التجاري بين الهند وأميركا من 5.6 مليارات دولار عام 1995 إلى ما يقرب من 18 بليون دولار في 2003، أي بزيادة قدرها 21 في المئة. وعلى رغم تباطؤ مسار الإصلاح الاقتصادي بالهند، إلا أنه لايزال في إطار معتدل نسبيا، بما يجعل الهند من أكثر المراكز جاذبية للمستثمرين الأجانب عالميا.
من المتوقع أن يثير اتفاق التعاون النووي، الذي يعد العنصر الأخير فى هيكل العلاقات الأمنية الهندية- الأميركية والتجارية في المواد التكنولوجية الحساسة، جدلا حامي الوطيس. اذ شرعت الولايات المتحدة الأميركية في تبنى إجراءات تهدف لإحداث تغيرات لنظامها القانوني وتعديلات لاتفاقاتها الدولية، بما يتضمن بيع بعض المعدات النووية السلمية. ووافقت الهند على أساس تبادلي، على حزمة من الإجراءات تزعم أنها ستمنحها نفس الممارسات والمسئوليات والمزايا والمنافع التي تتمتع بها الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا النووية المتقدمة كالولايات المتحدة الأميركية.
وإلى أن تنتهي تلك الإجراءات يواصل البرنامج النووي الهندي نموه الذي يصعب على أي من خارج الهند الحد من توسعه.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1590 - الجمعة 12 يناير 2007م الموافق 22 ذي الحجة 1427هـ