يفترض أن يكون اليوم أنهى الرئيس الأميركي جورج بوش إعلان استراتيجيته الجديدة بشأن العراق ومنطقة «الشرق الأوسط». وقبل صدور الإعلان الرسمي تسربت تكهنات عن البنود التي يريد اعتمادها خلال السنتين المقبلتين من ولايته الثانية. ومن أبرز نقاطه الجديدة تلك المتصلة بحجم القوات. ويبدو أن الرئيس بوش خالف كل التوقعات وقرر زيادة عددها بدلا من التخفيف منها مستخدما الموازنة الحربية التي قررها الكونغرس قبل إجراء الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني. فالموازنة التي سارع إلى إقرارها قبل الانتخابات وبلغت 70 مليار دولار تغطي نفقات الاحتلال الى سنة كاملة تنتهي في أكتوبر/ تشرين الأول 2007. وبالتالي فهو ليس بحاجة الى العودة إلى الكونغرس الجديد لأخذ الموافقة إلا إذا أراد تمديد الاحتلال سنة أخرى تنتهي مع الشهور الأخيرة من عهده في العام 2008.
لماذا قرر بوش زيادة عدد قواته بدلا من تخفيفها؟ ذرائع الإدارة كثيرة وهي في معظمها تستند إلى توصيات نقلها وزير الدفاع الجديد جيمس غايتس خلال زيارته التفقدية للقوات الميدانية قبل أعياد الميلاد ورأس السنة. فالوزير الجديد ادعى انه التقى مع رؤساء فرق وضباط ألوية وسألهم عن أسباب ضعف بنية الجيش العسكرية وما هي الاقتراحات التي يرونها مناسبة لسد العجز واحتواء الفشل والقضاء على العنف.
وبحسب ادعاء غايتس فإنه ينقل عن قادة الفرق والألوية أنهم توافقوا على ضرورة زيادة القوات وأكدوا على حاجتهم لتعزيز الآلة البرية كشرط لابد منه لتسجيل الانتصار المطلوب. فالانتصار كما يراه القادة الميدانيون مسألة عسكرية وليست سياسية. وهذا يعني أن أميركا لابد لها من إرسال المزيد من الجنود حتى تستطيع توفير الشروط اللازمة لتحقيق الهدف المطلوب.
هذه الخلاصة التي نقلها معه غايتس من العراق جاءت تلبي رغبات الثنائي بوش - تشيني التي تخالف وجهات نظر عسكرية أخرى وخصوصا ذاك الطاقم الذي تعاون مع وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد. فالوزير السابق كان يمثل رأي قادة يعتقدون بأن زيادة القوات لن تقدم أو تؤخر في المسألة بل ربما تسهم في مضاعفة المشكلات ورفع أعداد القتلى والجرحى من دون مقابل سياسي أو نتيجة ميدانية فاعلة.
الاختلاف في وجهات النظر وعدم التفاهم على تقدير الموقف وأسلوب إدارة الاحتلال أسهمت كلها في تشكيل آراء متعارضة بشأن العراق ومستقبل القوات الأميركية فيه. فالجناح الذي يمثله رامسفيلد تمسك بموقفه ودعمه الجنرال جون أبي زيد في الأمر بينما اتجه رأي بوش - تشيني إلى الاتجاه المعاكس. وانتهت المسألة باستقالة رامسفيلد وطاقمه واستبداله بوزير جديد مع طاقم ميداني يميل إلى الأخذ برأي الثنائي بوش - تشيني.
زيادة القوات شكلت نقطة مفصلية في اختلاف وجهات النظر لأن الزيادة تعكس في النهاية رغبة سياسية وقناعات ايديولوجية أكثر من كونها محاولة للرد على فشل ميداني. فالثنائي يرفض فكرة الفشل ولا يعترف بالهزيمة ويحاول قدر الإمكان كسب الوقت والتلاعب بالزمن الضائع حتى لا يصل إلى قول الحقيقة ويعلن بوضوح عن خطة الانسحاب من بلاد الرافدين.
المشكلة إذا سياسية قبل أن تكون عسكرية وهي أصلا تبدأ في واشنطن وتنتهي في بغداد. فالرأس يعاني من الصداع وحين يكون الرأس مصدر المشكلة يمكن فهم تلك الأعراض الناجمة عنه. مشكلة بوش في واشنطن، وبسبب تلك المشكلة امتدت تلك السياسة وانتشرت دوليا لتعاني ما تعانيه من حالات عصاب في بغداد وغيرها من العواصم والدول.
إعادة الاحتلال
بوش لن ينسحب من العراق قبل نهاية 2007. هذا على الأقل ما يمكن فهمه من موضوع زيادة عدد القوات بين 20 وربما 40 ألفا من الجنود. وخلال هذه الفترة يتوقع الثنائي الذي يتحكم بقرارات «البيت الأبيض» أن تحصل الخطوات الآتية:
أولا، القضاء على شبكات العنف من خلال إعادة احتلال العراق من جديد وتحديدا تلك المناطق والمحافظات وبغداد التي تتعرض إلى موجات من هجمات المقاومة.
ثانيا، إعادة احتلال العراق يؤدي برأي الثنائي إلى ضبط الأمن وتكريس الاستقرار وفتح الأسواق والمصانع والمشاغل ودب الروح في المؤسسات والمرافق العامة الأمر الذي سيعزز ثقة الناس بالنقد والاقتصاد ويعطي ذاك الأمل باحتمال عودة الازدهار والرفاهية الاجتماعية.
ثالثا، إعادة الاحتلال ستعطي دفعة معنوية للمتعاملين معه وستشجع تلك الفئات المترددة أو المستفيدة منه على توسيع رقعة التعاون والانخراط مجددا في مشروع تأسيس دولة ديمقراطية وعادلة.
رابعا، إعادة الاحتلال ستمهد الطريق لإجراء مصالحة وطنية وإشراك العرب السنة في العملية السياسية من خلال رفع تلك القرارات الصارمة التي صدرت بحق حزب البعث ومؤسسة الجيش.
خامسا، إعادة الاحتلال ستساعد على دعم حكومة نوري المالكي من خلال توسيعها وتحسين نسبة تمثيلها أو من خلال تعديلها أو تبديلها والإتيان برئيس حكومة مناسب يرضي كل الأطياف والطوائف والمناطق والفرق السياسية.
سادسا، إعادة الاحتلال ستوفر قاعدة سياسية آمنة وستعطي ذاك المجال المطلوب لإعادة تدريب وتأهيل الجيش العراقي حتى يكون على أهبة الاستعداد لاستلام زمام المبادرة والتكفل بواجباته الوطنية والأمنية إلى حين إعلان مغادرة القوات الأميركية رسميا البلاد.
سابعا وأخيرا، إعادة الاحتلال تسهل عملية الانسحاب في موعد يبدأ في نوفمبر المقبل ويستمر الى أسابيع وشهور تنتهي في فصل الخريف من العام 2008.
هذه هي «البقرات السبع» التي يتوقع الثنائي بوش - تشيني إنتاجها من خلال الترويج لفكرة زيادة عدد القوات الأميركية في العراق. فالفكرة سياسية في جوهرها ولكنها فعلا ساذجة وتتناسب كليا مع ذاك العقل المريض الذي يدير «البيت الأبيض» ويشرف على إدارة الاحتلال. فهل من المعقول أن ترهن واشنطن استراتيجيتها في المنطقة بالمراهنة على فكرة سخيفة تقتصر على موضوع عدد القوات ؟ وهل فعلا الفشل سببه عدد القوات ورفعها من 120 أو 130 ألفا إلى 140 أو 150 ألفا سينهي المشكلة؟ وهل سبب الإحباط يعود الى أمور عسكرية أم ان أساسه يبدأ من السياسة وذاك القرار الخاطئ في الاحتلال واستراتيجية التقويض والتعامل السلبي مع قضايا المنطقة؟
المسألة إذا تتعدى تلك التصورات التي أطلقها عقل الثنائي بوش - تشيني؛ لأنها أساسا لا تتبع العدد أو كمية القوات بقدر ما هي تتصل بسياسة تعمدت أصلا ضرب هيكليات الدولة ومؤسساتها ودفع البلاد نحو فراغ أمني أسهم في جذب القوى الأهلية إلى مناطق الاقتتال والاصطراع المذهبي والطائفي والمناطقي.
آخر التقارير الصادرة بهذا الشأن عن هيئات دولية محايدة يؤكد على أن هناك كارثة بشرية عصفت بالعراق. ويرى التقرير أن النزوح في العراق هو الأقسى والأضخم منذ نكبة فلسطين في العام 1948. ويشير التقرير إلى أرقام مخيفة في هذا الموضوع فهو يقدر عدد النازحين شهريا بنحو 50 ألفا ينتقلون من مكان إلى آخر. وذكر التقرير أن مليوني عراقي غادروا نهائيا بلاد الرافدين إلى الخارج وهناك نحو مليون و700 ألف عراقي غادروا مناطقهم (لأسباب طائفية ومذهبية) إلى مناطق أكثر أمنا في الداخل. وهناك قرابة 350 ألفا من دون مأوى ويحتاجون إلى خيم ومساعدات وإعاشات لا تقل موازنتها الشهرية عن 60 مليون دولار.
هذا التقرير المرعب صدر في الأسبوع الماضي وقبل أيام من الهراء الذي يقال إن الثنائي بوش - تشيني قرر الأخذ به في استراتيجية أميركا الجديدة في العراق.
الاستراتيجية المقبلة أشارت إلى اقتطاع مبلغ مليار دولار للمساعدة على تشغيل المؤسسات والمرافق العامة المتوقفة عن العمل. مليار دولار في بلد يعتبر من أغنى دول «الشرق الأوسط» في ثرواته الطبيعية والبشرية لا يحرك سوى الجزء البسيط من قطاعات الدولة. فالمليار مبلغ تافه في بلد ينتج ملايين براميل النفط في السنة وتدر ثروته الطبيعية المليارات من الدولارات سنويا. فأين ثروة العراق ولحساب من تهدر تلك المليارات من الدولارات؟ ومن هي الفئات التي تتحمل مسئوليات السرقة والنهب والحرق؟ وما صلة الاحتلال بها؟ كل هذه الأمور لا يتعرض لها الثنائي الذي رصد مئات مليارات الدولارات لتنفق على الحروب والغزوات وتغطية نفقات الجيوش لتشغيل مؤسسات التصنيع الحربي في الولايات المتحدة بينما بلاد الرافدين تعاني سياسات الإفقار والتجويع والتشريد والطرد من أماكن الإقامة والنزوح إلى مناطق متجانسة في تكوينها الأهلي (الطائفي والمذهبي).
استراتيجية الثنائي بوش - تشيني الجديدة لا تختلف عن القديمة بل هي أسوأ في الكثير من الوجوه الأمنية والسياسية عن تلك التي تحكمت بقرارات «البيت الأبيض» منذ احتلال العراق في العام 2003. فهل من المعقول ان تصحح سياسة التقويض التي امتدت نحو أربع سنوات بسياسة مخادعة لن تستمر أكثر من سنة واحدة؟ الجواب لا يحتاج إلى رؤية أو مخيلة. فالاستراتيجية التي اقترفت تلك الكوارث وفككت العلاقات الأهلية وبعثرتها الى طوائف ومذاهب تنزح من مكان إلى آخر بحثا عن ملجأ لا يمكن معالجتها بالمزيد من القوات والكثير من الخدع والأكاذيب.
العراق الآن يمر في حال نكبة لا تقل في تداعياتها عن نكبة فلسطين. وتصحيح النكبة يبدأ بالتأكيد على التحرير وإنقاذ ما تبقى من عناصر قوة وليس باعتماد استراتيجية جديدة تقوم على فكرة إعادة الاحتلال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ