ليسمح لي رئيس مركز الخليج للأبحاث الأستاذ الفاضل عبدالعزيز عثمان بن صقر أن أختلف معه بشأن ما ورد في مقاله بـ «الوسط» في تاريخ 26 ديسمبر/ كانون الأول 2006، الذي جاء تحت عنوان «الخليج وحال اللاخيار»، إذ إنني أرى ومن وجهة نظر مبدئية صرفة وقناعة ثابتة وراسخة في تفهمها بأنه من حق الجارة والشقيقة إيران أن يكون لها مشروعها وبرنامجها النووي السلمي لتحقيق الاستخدامات المختلفة من الطاقة النووية كمصدر احتياطي بديل عن موارد الطاقة النفطية، كما أنه وأخذا بحكم معطيات استراتيجية قائمة فإنه يحق لإيران مرة أخرى أن تتمتع ببرنامج نووي للأغراض العسكرية الدفاعية عسى أن يشكل نوعا من المقارعة، ويخفف من طغيان التهديد النووي الصهيوني الذي لايزال مسكوتا عنه في المحافل الدولية المعنية بحفظ السلم الدولي والرقابة على انتشار الأنشطة النووية عالميا.
وبالتالي يجوز لها أيضا أن تصبح وتظل طرفا ولاعبا إقليميا بارزا لا يستهان به في المنطقة مع التورم الصهيوني الجيوبوليتيكي الآخذ نحو الازدياد والتغلغل في مفاصل الإقليم اقتصاديا وسياسيا، وربما تتاح لها الفرصة بأن تكون في رؤيتها مواقع ونقاط على الخريطة الإقليمية أشبه ما تكون بفرص الامتداد وبسط الهيمنة والنفوذ والاختراق بكل ما في الكلمة من معنى، في ظل أحادية قطبية صارمة تمارس من قبل الولايات المتحدة الأميركية يتم من خلالها الإصرار مرارا وتكرارا على ممارسة الحماقة تلو الحماقة.
لكن من ناحية أخرى، يحق أن يظل هنا تساؤلا عالقا في ذهنية عربية حائرة بشأن التطلعات الإيرانية من جوار تاريخي آخر على الضفة المغايرة، ألا وهو الجوار العربي الإسلامي الذي ربما تترقب منه إيران أن يظل جوارا يحترم حقوق «الجيرة» ويقف موقفا باتا وقاطعا حيال التهديدات الصهيوأنجلوأميركية بخصوص إجهاض البرنامج النووي الإيراني، عبر توجيه ضربات عسكرية متتالية له طالما لم يخضع لإرادة «مجلس الأمن الدولي»، وهذا السؤال يتعلق من دون شك بمستقبل الثقة بالآخر والتعاون ومدى الصدقية المتوافرة بين الجوارين التاريخيين.
ففي ظل الممارسات السافرة في العراق الممزق، التي عادة ما أخذت وتأخذ - كما أسلفنا في مقال سابق - طابعا ثأريا انتهازيا من عراق صدام حسين الذي وقف وتصدى لمدها الأيديولوجي «الرسالي» أمام حاجز الواقع بدعم عربي أميركي ملحوظ آنذاك، كما أنها تمتد في الإشراف الاستخباراتي على دعم وتنفيذ عمليات اغتيال وتطهير عرقي وتهجير طائفي في العراق بحق أهل السنة والجماعة والشيعة العرب الذين للأسف تم إحراق مساجدهم بالمئات، وقبلها العيث والعبث فسادا في أبدان زهرات شبابهم بسائر أنواع الأحماض المؤكسدة وتقطيع الأيدي والأطراف، وتثقيب الأجساد بالمثقاب الكهربائي، وتهشيم الجماجم بالمطارق والفؤوس الحادة بحجة انتماء هؤلاء الشهداء القتلى كغيرهم من شهداء العراق إلى أن تحل الرحمة الإنسانية المتأخرة عليهم ببضع طلقات ترديهم قتلى وتخلصهم من عذاب ساعات طوال وأيام، لتكرم الجثامين المحترقة بعدها في مكبات القمامة والمجاري وأفواه الكلاب، أو تحفظ خبيئة لمن يهمه الأمر على بقايا ألسنة الطرقات الرمادية في ضحوات مغبرة.
بل وتطول تلك الأيادي الملوثة بالحقد والتشفي لتمارس ما يشبه الحيلولة بين العراق وعودة نهوضه الحضاري والكياني الوطني، ليظل يتيما من كوادره الفكرية والعلمية النادرة في شتى المجالات الجوهرية في مجالات التقدم المعرفي الحديث للإنسان، بحجة أن تلك الكوادر والكفاءات ساهمت من قبل في خدمة المشروع الصدامي الصِدامي، وانتمت للمؤسسة أو قل «الفئة الحزبية البعثية» الآخذة في الاتساع في عراق صدام حسين.
وليظل العراق معتاشا على ما يمنح له من صدقات وحقن علاجية وتجريبية لم يثبت حتى وقتنا الراهن إلا أنها ذات أثر ومردود سلبي ومدمر على العراق والمنطقة ككل، أمام نهوض ماردين أحدهما صهيوني - أميركي والآخر إيراني ثبت زمانيا وتراكميا أنهما ليسا دوما في محطات تصادم وتناطح واشتباك كما حصل في جنوب لبنان، فهناك محطات أخرى نجدهما خلالها في مصفوفة واحدة موشاة بخطوط الذهب، وذلك في اتحاد الموقف نحو إعدام صدام حسين ذي الصيغة والصبغة الطائفية المقيتة والتوقيت المريب، ما يؤدي لو استمرت الوتيرة الرتيبة في ازدواجيتها وفرادتها ذاتها إلى القضاء على إمكان للوثوق والصدقية على مستوى تأسيس القناعات والرؤى السياسية والاستراتيجية الجوهرية وإفقاد السياسة والموقف الإيرانيين من علائمهما ودلالاتهما المبدئية الموضوعة تجاه «الشيطانين الأكبر والأصغر»، وتجاه الجوار المشترك مع دول عربية إسلامية تتوخى التعامل مع سياسة قومية فاقعة مطلية مذهبيا، تنظر بفخر واعتزاز كما يبدو إلى قوانين العرض والطلب التي قد ترجع كفة في جهة وتخسف بكفة في الجهة الأخرى.
وما لاشك فيه ونتيجة للموقف الإيراني المتواطئ تجاه الحرب على أفغانستان والعراق، كما هي مواقف الأنظمة العربية الحاكمة، بل وازدواجيته المغايرة تجاه الحرب ضد جنوب لبنان والتهديدات الموجهة صهيونيا إلى سورية، فقد ازداد الوضع تأزما ولم يقتصر على نطاق الأنظمة الحاكمة بل امتد في ما يشبه صدمة عارمة وأزمة وعي شعبي ملتبس بفعل ضربات متتالية إلى رواج مصطلحات تاريخية قلقة تشي بطابع العلاقة مع الآخر كـ «الصفوية» و»الصفويين» و»المد الصفوي» التي تشير إلى توسع وزحف فارسي قومي متشح بصيغة مذهبية، وإن كانت تشير إلى حقبة حضارية ودولة وقوى تاريخية شكلت رصيدا مهما من الخزين الحضاري التاريخي الإسلامي بكل ما فيه من عنق واستئصال أو بناء وتقدم، فإنها توحي بمناخ العدائية وتوخي التعرض لتصفية على أساس مذهبي أو عرقي أو ضمن نطاق الصراع على موارد الثروة والسلطة المختلفة في المنطقة!
بل إنه طاب العيش في هذه الحاضنة البيئية الموبوءة وفي ظل المناخ السياسي المحموم والمتكدر بعد الإعدام الطائفي البغيض لصدام حسين لبعض «العبقريات» التي رأت حطاما، ونادت بضرورة الاصطفاف الطائفي، واعتزال سائر أشكال «التصوف الوطني»، والوقوف ضد مطالبات التعديلات الدستورية، وإعادة النظر في النظام الانتخابي، وفي التمييز الطائفي، وسرقة السواحل والأراضي، مع دعم خطوات الدولة في زيادة النعرة لا الخطوة القانونية التجنيسية، ليكون المجنسون الجدد من العرب سدا منيعا وخندقا مشتعلا يحول بين التعرض لمدى وحراب ونقمات «الصفويين»، كما هو حاصل في العراق الممزق بعد إعدام صدام «حامي الحمى»، فلا مانع أن تكون البحرين بعد ذلك بقرة محلوبة على أمرها، ويا سلام سلم!
لذلك ربما لن تكون المهمة يسيرة أمام قوة إقليمية نافذة وصاعدة في المنطقة كإيران بسياساتها المدببة ذات الأسنة الثأرية والقومية المتطرفة بلون مذهبي في أن تنال ثقة وثقل امتداد عربي سني كبير لا يمكن إنكاره بحكم الواقع، وذلك أمام حرب محتملة ضد الولايات المتحدة وحليفاتها في عرض «الخليج العربي»، فيكون من الأفضل لها أن تحاول تسويغ وتسويق مواقفها وربط قناعاتها المبدئية المعلنة مع ممارساتها الدبلوماسية بأفضل شكل ممكن، لتنال على الأقل ثقة شعبية وأهلية حاشدة، وإن استعصى نيل تضامن ووقوف أنظمة حكم غارقة حتى أذنيها في ذل القار الصهيو - أميركي.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ