العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ

الرؤيا بين واقع حدث أم فرضية أنتجتها المخيلة

«ديجافو» فيلم بوليسي - خرافي

«DEJAVU» أو الرؤيا موضوع فيلم بوليسي يحاول قدر الإمكان أن يقدم لقطات موجزة عن فكرة الزمن ومدى استعداد الإنسان لاختراقه. وهذا الدمج بين العناصر البوليسية وفكرة الزمن وطموح الإنسان لمعرفة الغيب أو العودة إلى الوراء ومحاولة السيطرة على الحوادث قبل وقوعها أعطى الفيلم نكهة مشوقة تجاوزت ذاك الروتين الذي أخذ يسيطر على هذا النمط من الأشرطة السينمائية.

يبدأ الفيلم عاديا. سفينة تنقل الركاب من ضفة نهر المسيسبي إلى ضفة أخرى ويحصل انفجار رهيب يقتل فيه 542 راكبا. فكرة الفيلم (الانفجار) ليست بعيدة عن أجواء «الإرهاب» التي تخيم على الولايات المتحدة منذ انفجار أوكلاهوما وهجمات 11 سبتمبر حتى إعصار كاترينا. فكل هذه الحوادث المؤلمة تركت أثرها على الشاشة وبدأ المخرجون والمنتجون يتطرقون إليها من زوايا أخرى تعتمد على الفرضيات والاحتمالات هربا من الدخول في وقائع الحوادث.

هناك الكثير من الأفلام التي عالجت حوادث العنف والشغب والملاحقات والمطاردات. وهناك غيرها تطرق إلى الإرهاب وشبكاته وأفعاله. وبحكم كون الموضوعات غير مفترضة بل هي حوادث وقعت فعلا طغت على الأشرطة مسحة واقعية في المتابعة أو التحليل أو الربط.

فيلم الرؤيا (ديجافو) انطلق من زاوية أخرى. فهو عالج واقعة لم تحصل. ومن منطلق تلك الفرضية ظهرت موضوعة الرؤية أو المشاهدة أو العلم بالغيب أو إمكان تغيير الماضي وصولا إلى القدر وكونه مسألة لا تمس وما حصل حصل ولا يمكن تغييره.

الفيلم يبدأ إذا من واقعة مفترضة. ويبدأ البوليس ومكتب التحقيقات وفروع الشرطة على أنواعها في البحث عن السبب ولماذا وقع هذا الانفجار الرهيب؟ وهل هو مصادفة أم مفتعل نفذته جهة إرهابية؟

الفيلم لم يدخل في السياسة. هدفه ليس هذه المسألة. كذلك لا يتهم المسلمين أو شبكات إرهابية أجنبية بل، وهذه مفارقة، يشير إلى تشابه بين هذا العمل وما حصل في أوكلاهوما أي أن من قام بهذا العمل مجموعة أميركية متطرفة تكره الدولة الفيدرالية ومؤسساتها.

إلا أن الشريط السينمائي لا يعالج هذه المسألة العرضية لأن هدفه هو الرؤيا وإمكان تغيير التاريخ وتبدل مجرى الحوادث من خلال العودة بالزمن إلى الوراء وكشف الطرف الفاعل ومنعه من تنفيذ عمليته.

الحادث إذا لم يحصل وإنما فرضية. وهذا ما سهل على المخرج تطوير فكرة الرؤيا أو الاعتماد على منهجيتها للعودة إلى الوراء بغية إحباط مهمة الإرهابيين.

تبدأ الرؤيا من هذا المدخل. فالمحقق الذي أخذ يجمع المعلومات توصل إلى معرفة اسم فتاة اتصلت به ووُجدت مقتولة في الحادث. وتبين أنها قُتلت قبل وقوعه. وهكذا أخذ المحقق بربط الخيوط والذهاب إلى منزل والدها وأخذ مفتاح شقة ابنته والدخول إلى بيتها والعثور على أقمشة ملطخة بالدم ومسدس وغيرها من الأشياء.

حتى الآن لا يعرف المشاهد تلك الصلات بين الخطوط وعلاقتها ببطل الفيلم دينزل واشنطن. ومن خلال عملية البحث يطلب من المحقق الانتقال إلى مركز رصد. وفي المركز يلاحظ أن هناك آلة تصور الوقائع والحياة اليومية بواسطة الأقمار الاصطناعية. وهذه الآلة تتحكم بحركة الزمن لمدة أربعة أيام وست ساعات. وبحكم هذه الآلة يمكن رؤية الحوادث كما هي ولكن يصعب تغييرها أو التدخل في مجرياتها. الآلة تعود بحركة الوقت ثم تصعد بالزمن دقيقة دقيقة أي أن الشرطة كانت بحاجة إلى أربعة أيام لمعرفة المجرم الذي ارتكب حادث التفجير.

هكذا بدأ التفكير في الموضوع وإمكان اختراق الجدار الزمني وإعادة تركيب الحوادث انطلاقا من السيطرة على عقارب الساعة. فالمشاهد التي تصورها الآلة حصلت ولم تحصل والأموات أحياء وغير أحياء والانفجار حصل ولم يحصل والفتاة التي وُجدت مقتولة ومشوهة هي حاضرة وفي عالم الغيب.

الفيلم هنا دخل في عالم الفيزياء والماتفيزيا من خلال الرؤية وإمكان مشاهدة الماضي واحتمال تغييره. وهكذا حصل صدام بين المحققين وبدأ كل فريق يدافع عن فكرته إلى أن نجح رأي يقول بإرسال المحقق لملاحقة المجرم الذي اكتشف البوليس اسمه وشكله والأسلوب الذي اتبعه لتنفيذ جريمته. كل هذه المعلومات أصبحت واضحة. وبقي السؤال هل يمكن منع حادث التفجير وإنقاذ حياة 542 راكبا اضافة إلى تلك الفتاة التي دخل المحقق منزلها وتعرف على تفصيلات حياتها.

بطبيعة الحال يرسل المحقق ويمنع المجرم من تنفيذ عمله وينقذ الركاب والفتاة. ولكن الأهم في الشريط السينمائي هو أن المحقق اكتشف ان تلك الحاجات التي وجدها في المنزل تعود إليه. فهل دخل المكان قبل ذلك وما هي صلة الرؤية بالمستقبل بتلك الرؤية في الماضي؟ وهل الزمن حلقات مترابطة في سلسلة يستطيع الإنسان في المستقبل أن يحركها بآلات متطورة تتحكم بحركة الزمن؟

كل هذه الأسئلة تدخل في الخرافة؟ ولكن العلم حين يتطور كثيرا يتحول بدوره إلى خرافات. وفيلم الرؤيا هو من هذا الصنف المتخيل الذي يجمع العلم بالخرافة ويعتمد فرضية حصول حادث ثم يقوم بتعديل تلك الفرضية من خلال العلم الخرافي أو الخرافة العلمية.

الفيلم يقوم على أفكار علمية (نظرية الزمن النسبية) ولكنه يستخدمها فلسفيا لإعادة التذكير بذاك الطموح الإنساني لمسألة الاختراق. هل يستطيع الإنسان السيطرة على الزمن؟ سؤال فلسفي بُحث مرارا وكانت الإجابات متوافقة نسبيا على نفي الفكرة. سؤال الزمن قديم العهد. وهناك الكثير من الكتب التي حاولت تعريف الموضوع من خلال وجهات نظر متفاوتة. البعض مثلا يدعي الرؤية والمشاهدة والعلم بالغيب. والبعض يقول إنه يعود إلى الماضي ويستحضره. والبعض يقول إنه يذهب إلى المستقبل ويشاهد الحوادث الآتية.

هذا جانب من موضوع علاقة الإنسان بالزمن. ولكن هناك الكثير من الوجوه لا تدرك على رغم وجود اتجاهات تعتقد بفكرة العودة أو التقمص أو التناسخ أو الابتعاث وغيرها من خطوط فلسفية رأت في الإنسان مجرد جسد فان بينما الروح خالدة.

ولم تقتصر الفكرة الزمنية على القضايا الروحية وإنما هناك في حقول الاجتماع وعلم التاريخ نظريات تقرأ حوادث البشر في مجرى زمني. فهناك علماء في التاريخ الدائري الذي يرى التطور يتحرك ضمن حركة صعود وهبوط وما أن تنتهي دائرة الزمن في نقطة حتى تعود إلى الحركة صعودا. وهناك التاريخ التطوري الذي يرى الزمن حركة لا تعود إلى الوراء بل تتقدم دائما إلى الأمام.

بقي الحوار حول الزمن فكرة فلسفية تراود كل علماء الاجتماع والتاريخ واللاهوت المسيحي والفقه الإسلامي إلى ان دخلت الفكرة عالم المختبرات وبدأ الفيزيائيون يبحثونها في سياق علمي لا فلسفي. وأدت البحوث خلال 500 سنة إلى اكتشافات مختلفة في مسألة تعريف الزمن وتحديد هويته وحركته إلى آخر المعطيات البحثية. ومن هؤلاء كان ليوناردو دافنشي وإسحق نيتون وانشتاين وغيرهم من العلماء الذين دمجوا الفلسفة بالعلم وحاولوا تفسير حركة الزمن في سياقات نسبية. وتوصل بعضهم إلى استنتاجات تقول إن حركة الزمن تختلف من مكان إلى آخر. والزمن الذي نعرفه في يومنا هو غير ذاك الذي يمر فيه الكون والمجرات وحركة الكواكب والنجوم. فالزمن على الأرض أسرع وهناك سرعات زمنية تتفاوت بين حركة وأخرى. هذا الخلط بين الطبيعة الفيزيائية والماورائيات أعطى العلماء قدرة على تحليل مفهوم الرؤية والعلم بالغيب والتوقع بما سيحصل في المستقبل وكذلك معرفة الماضي.

بهذا المعنى العلمي - الفلسفي قام مخرج «ديجافو» في تركيب فيلمه الخرافي على رؤية فلسفية - بوليسية تقوم على فرضية انفجار إرهابي في سفينة للنقل النهري. الانفجار لم يحصل أساسا ولكن البحث جرى لمعرفة أسبابه وإمكان تغيير مجراه ومنعه من الحصول. إنها فرضية. والفرضية بحد ذاتها تسمح بالدخول إلى خلفياتها من زاوية الفضول الفلسفي أو الخرافة العلمية. إنها في النهاية مجرد رؤية.

العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً