نشرت صحيفة «الوسط» مقالا بتاريخ 25 ديسمبر/ كانون الأول 2006 بعنوان «الشيخ الضرير الذي أبصر عروبة البحرين تاريخا ومستقبلا»، إذ أشار الكاتب إلى حديث رئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة عن أصالة أهل البحرين في المواقف الوطنية، مستشهدا بمواقف حصلت قبل أكثر من ربع قرن في سترة وتحديدا في العام 1970 عندما جاء المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة فيتوريو وينسبير جويشاردي للتعرف على آراء شعب البحرين فيما يتعلق بمستقبله، والتقى أهالي منطقة سترة في مجلس المرحوم الحاج الملا رضي بن طوق رحمه الله الذي عبر بشكل قاطع نيابة عن أهالي المنطقة عن أن عروبة البحرين ليست محل تساؤل، وأن الحكم الخليفي هو الحكم الشرعي الذي ارتضاه أهل البحرين منذ أمد طويل. حينها كان كاتب هذا المقال حاضرا عندما عبر المرحوم الملا رضي بهدوئه وحبكته المعهودة بأن عروبة البحرين وحكمها الشرعي هو قدرنا الذي لا نحيد عنه مهما كانت الظروف، ومهما كان المصير مستجيبا لدعابة المبعوث الشخصي بمداعبة أخرى تؤكد الولاء لهذه الأرض وحكامها العرب الشرعيين.
إن ملاحظة سمو رئيس الوزراء لها مدلولاتها المهمة التي يجب علينا التوقف عندها وخصوصا في هذه الأوقات وفي ظل التطورات من حولنا لنستوعب من دروس الماضي ما يفيد حاضرنا ويرسم مستقبلنا ويجنبنا ما يعاني منه غيرنا.
فموقف المرحوم الملا رضي آل طوق إنما جسد شعور وعقيدة أهل البحرين منذ الاستقلال الأول لهذه الجزيرة على يد المؤسسين الأوائل بدءا من الشيخ أحمد آل خليفة وابنيه: الشيخ سلمان والشيخ عبدالله، إذ التسامح والتعايش، إلى عهد الشيخ عيسى بن علي الذي ارتضاه أهل البحرين حاكما، مرورا بمرحلة الاستقلال الثاني في عهد الشيخ عيسى بن سلمان طيب الله ثراه حيث أكد أهل البحرين عروبة وطنهم واستقلاله من التبعية الأجنبية، حتى مرحلة مشروع الإصلاح والتصويت على ميثاق العمل الوطني بغالبية ساحقة، إذ رد شعب البحرين التحية بأحسن منها متفاعلا مع مبادرات جلاله الملك الإصلاحية التصالحية. هذه جميعها تشكل مراحل تاريخية حاسمة تعكس الرغبة الجامحة للحفاظ على الوطن من خلال الوحدة الوطنية والوئام والتعايش على أساس من القواسم والمصالح المشتركة والثوابت الوطنية.
الممانعة والموالاة
هذه الحقائق من المواقف والثوابت الوطنية لم تستند إلى مرجعية الموالاة أو المعارضة المذهبية إن لم تكن تتقاطع معها. إن محاولة البعض الربط بين المواقف المتمثلة في الممانعة لممارسات الإقصاء والسعي إلى نيل حقوق المواطنة وبين الانتماء المذهبي أو الديني، وصبغ الممانعة بالمذهبية أمر لا يستند إلى حقائق علمية أو تاريخية.
كما أن الربط بين مواقف الممانعة هذه ومقولة الولاء أو عدم الولاء استنادا إلى الخلفية ذاتها يعتبر تجنيا على حقائق التاريخ والسياسة والاقتصاد وعلوم البيولوجيا. فالبيعة الوطنية الكبرى في سترة فندت هذه الادعاءات كما فندتها المواقف الوطنية التي سبقتها منذ مرحلة الاستقلال الأولى.
لقد برهنت علوم السياسة والاقتصاد أن القناعة والرضا مرتبطان بتحقيق المنفعة والمصالح أو ما يسمى في علم الاقتصاد بتحليل نتائج الربح والخسارة التي تبنى عليها المواقف والقرارات، وهناك مثل شعبي نردده ويحمل مدلولات اقتصادية، وهذا المثل يقول «إنما ينعت السوق من يربح فيها».
وهذا يؤكد المبدأ الاقتصادي الذي يربط بين تحقيق القناعة والرضا وبين العائد أو المنفعة. من هنا نخالف الواقع إذا افترضنا عكس ذلك، إن هذه النظرية الاقتصادية منبعها طبيعية النفس البشرية التي فطر الخالق الناس عليها. ففي العلوم البيولوجية اشترك الإنسان والحيوان في مورثات بيولوجية تتعلق بالفعل ورد الفعل أو ما يسمى Cause and Effect. فالقط مثلا عند محاصرته، يتحول من حال الهرب إلى حال الهجوم وكما يقول المثل الانجليزي «القط يهاجم عند محاصرته في زاوية». إذا، فالممانعة ورفض الألم والاذي لا علاقة له بمذهب الإنسان أو عقيدته، فالإحساس بالألم مهما كان نوعه هو خاصية يشترك فيها الإنسان والحيوان على حد سواء؛ فالخالق سبحانه وتعالى وهب جميع المخلوقات جينات فطرية تحفزها على الممانعة ورفض الاذي. ولولا هذه الخصائص الفطرية لانقرضت كائنات كثيرة من الوجود.
من هنا فالربط بين هذه الخصائص الفطرية المتمثلة في الممانعة ورفض الاذى وأية عقيدة أو ايديولوجية مكتسبة لا يوجد له أساس في علوم الطبيعة والسياسة والاقتصاد، فضلا عن كونه يناقض فطرة الخالق. على هذه الخلفية يمكننا اعتبار البيعة الكبرى في منطقة سترة بمثابة رد فعلي طبيعي لمبادرة إصلاحية لامست احتياجات طبيعية لإنسان يحلم بحقوق المواطنة والعيش خارج غياهب السجون. فلم يكن للعقيدة المذهبية مكان في عقول الشباب الذين تجمعوا في مجلس المغفور له بإذن الله تعالى العلامة الشيخ منصور الستري عندما هتفوا «بالروح والدم نفديك يا بوسلمان». فقوة رد الفعل هي رد على تحية وذلك خلافا لما يحلو للبعض تفسير أية ظاهرة طبيعية. ولم تكن بيعة سترة الكبرى انقلابا مفاجئا في المزاج بقدر ما هي انبعاث فطري لما هو كامن في العقل والوجدان، ولو كانت الايديولوجية والمذهبية حاضرة أيضا لما حدث هذا الانبعاث الذي ابهر الجميع.
نعم هذه هي سترة، على رغم بساطة أهلها فإنها كانت دائما حاضرة في الساحة، فعندما كان باطن الأرض مغلقا على ذهبه الأسود، وحين شحت الموارد الطبيعية بسبب الحروب، كانت مع غيرها من مدن وقرى البحرين مصدر عطاء للغذاء في البر والبحر، فكانت النخلة هي المصنع ومصدر الغذاء، وعلى رغم هجرة الكثيرين لهذا الاقتصاد المنتج، مازال أبناؤها متمسكين بما ترك لهم من ماء وارض وبحر، حتى أصبحوا يرنون لمحافظ يغلق عليهم جزيرتهم ويحافظ على سواحلها من جور غير قاطنيها.
أبناء سترة ربما لا يسمع عنهم الكثير لأن مشاركتهم في إدارة الدولة ومؤسساتها المالية والصناعية شبه معدومة، ومن دون إرادتهم، على رغم كونهم يشكلون أكثر من 12 في المئة من سكان المملكة، إنه التغريب، أو لربما لعدم إجادتهم أصول اللعبة السياسية المتمثلة في المقايضة والمساومة بدلا من نهج العطاء للوطن من دون مقابل. لهذه الأسباب فهم مغيبون، وحتى أصواتهم صنفت في أسفل سلم الدرجات، ولم يسعفهم حتى نظام المحاصصة المتبع في توزيع المغانم. إنها حقا المواطنة المنقوصة بكل المقاييس والتي تجعل الممانعة حاضرة في الوجدان.
ألم تكن سترة منارا للعلم ومصدر إشعاع بعلمائها؟ نعم فالتاريخ يقر بدور أهلها في الماضي والحاضر. لهذه الأسباب آثر قادة هذا الوطن التواصل مع هذه الجزيرة للتحصيل المعرفي والديني في لفتة نادرة من التسامح والتآخي. هذه هي سترة التي يحاصرها التلوث من ثلاث جهات وتغلق سواحلها من أربع جهات، ويغيب أهلها عن إدارة شئون وطنهم، وعلى رغم هذا وذاك فهم ثابتون على مواقفهم الوطنية وخصوصا في اللحظات الحاسمة، كما أكد ذلك سمو رئيس الوزراء في إشارته إلى موقف المرحوم الملا رضي آل طوق، فهم جميعا يرون المتعة في حب البحرين ولا يجدون صعوبة في نطق أحرفها.
فإذا كان حب الوطن يتمثل أيضا في حب أبنائه، فليتوقف دعاة الاستئثار عن تبرير ممارسات التهميش والإقصاء وإلغاء حقوق المواطنة للآخرين بمقولات بالية تدضحها المواقف الوطنية وحقائق التاريخ وعلوم الاقتصاد والطبيعة والبيولوجيا، وسنن الله في خلقه.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 1587 - الثلثاء 09 يناير 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1427هـ