مع كل يوم يمر علينا ونحن نعيش هذا الزمن «الانتقالي» العجيب يكاد يتأكد لي بالقطع واليقين أن ثمة ضبابا كثيفأ يتم نشره في السماء العربية والإسلامية بشكل متعمّد من أجل التعمية على أهداف ، جزء منها بات واضحا فيما لايزال أجزاء منها مستورا لم يكشف النقاب عنه بعد!
الضباب الكثيف والغموض مقصود منه أن يلف كل شيء ،ويحيط بكل شيء، ليس فقط بالسماء، بل أن يقترب إلى الأرض تماما ويلامسها إلى درجة زرعها بالألغام الغامضة، أن يلف بالأمكنة والأسماء والعناوين والمعايير والمفاهيم والكلمات والحروف حتى لا يبقى أي شيء متفقا عليه أو يمكن الإجماع عليه من قبل أية مجموعة أو طائفة أو فئة أو طيف من أطياف مجتمعنا ؛ناهيك عن إجماع باتت تحنّ إليه الأمة حول أي شيء حتى لو كان نشيدا أو أغنية أو ذكرى قومية أو دينية!
صدّقوني إنها حرب «استحمار»! مقصودة ومتعمّدة كما كان يسميها المفكّر الإيراني الراحل علي شريعتي، وطبعا ؛لأن لدينا ما كان يسميه الراحل بـ «قابلية الاستحمار»! وإلا ما كان لذلك أن يحصل بسهولة _كما هو حاصل الآن_، وهي جزء من حرب أكبر بدأت منذ بعيد ضدنا تحت عنوان عريض اسمه «الاستعمار»! وهو ما كان لها أن تحصل بسهولة وتتحقق أهدافها العلنية والخفية ؛لولا وجود ما كان يسميه المفكّر الجزائري الراحل مالك بن نبي «قابلية الاستعمار»!
إن «القابلية» التي يتحدّث عنها المفكّران هي بالضبط «الفضاءات» و»الأجواء» و»الثقافات» المسمومة والفاسدة التي تنشرها نخبنا أو حكّامنا أو كلاهما بين عامّة الناس، وخصوصا إذا ما عاضدهما أو أنضم إليهما المتكلمون باسم الدين أو من اشتهروا بكونهم «فقهاء السلاطين» أو «فقهاء السياسيين».
لا أريد أن أتحدّث عن الظروف «الضبابية» المقيتة التي أحاطت بغزو العراق واحتلاله واستباحته ونهبه وتحويل مقدراته وثرواته وطاقاته ومكونات الدولة والوطن فيه إلى «فرهود» كما هو المصطلح العراقي ؛أي نهبا عاما للجميع من دون قيود.
فهذه قصة طويلة تحتاج إلى «تأريخ» مفصل ليس هنا مقامه! لكن ما يجري منذ مدّة في العراق تحت عنوان حروب «الجثث المجهولة الهوية»! على أيدي الملثمين أو المسلّحين أو الميليشيات أو فرق الموت. سمّوها ما شئتم لكنها «المجهولة الهوية»! دوما وبإصرار من السلطات الحاكمة في العراق المحلية منها أو المتعددة الجنسيات هذه التسمية «وتقبّل» الإعلام العربي لها من دون تململ أو تساؤل أو احتجاج! وما رافقها من جلسات ركيكة وسخيفة وهزلية ومسرحية لما أطلق عليه بمحاكمة «صدّام حسين وأعوانه» بشأن قضايا معينة ومحددة مليئة بالألغام والشوائب والغموض والضباب الكثيف والاستهزاء بعقول العراقيين والعرب والعجم والأكراد وكل الأقوام والملل وهو ما لم يحدث في تاريخ المحاكمات في التاريخ وصولا إلى القرارات التي خرجت منها هذه المحاكمات الهزيلة متوجة بالمشهد المشوّه والملغم والمليء بالغموض والشبهات... كلها فصول لا يزال كتّابها لم يختم للامن بعد تشرف عليها أيدٍ خبيثة خارجية لا تضمر إلا الشر المستطير للأمّة بكل مجموعاتها وأطيافها وطوائفها وأديانها ومذاهبها... ولكن بمساعدة شلل «مجهولة الهوية»! لكنها من بين أهلنا وأبناء جلدتنا وللأسف الشديد... لا تفكّر إلا بطموحاتها وأطماعها وثرواتها وغرائزيتها الشخصية والفئوية الفاسدة. يريدوننا أن نعتقد زورا وبهتانا بأن النظام السياسي البائد الذي كان يحكم العراق مشكلته الرئيسية إنما هي في كونه كان يمثل الطائفة السنية الكريمة على حساب الشيعة ولذلك نحاكمه اليوم! يريدوننا أن نصدّق ونعتقد بأن الذي يقاومون المحتل الأميركي اليوم إنما يقاومونه دفاعا عن امتيازات خسرتها الطائفة السنية الكريمة لصالح الشيعة!
يريدوننا أن نصدّق ونعتقد بأن زعماء الأكراد وأحزابهم الرئيسية الذين لعبوا الرافعة الحقيقية لقدوم الأجنبي وتدخله وتاليا غزوه لبلاد الرافدين ليسوا من الطائفة السنية الكريمة ولا عراقيين بل أنهم من كوكب آخر!
يريدوننا أن نصدّق ونعتقد بأن الأحزاب والرموز الشيعية التي تعاونت معهم في الغزو أو تسهيل تفكيك الدولة العراقية ،إنما تعاونوا مع الاحتلال؛ لأنهم شيعة و»روافض»! يريدوننا أن نصدّق بأن الرموز والأحزاب السنية العربية التي تعاونت مع الاحتلال وسهّلت له تفكيك الجيش العراقي والدولة العراقية ،إنما تعاونت معه ؛لأنها رموز وقوى عقلانية معتدلة وتعرف صالح العراق من طالحه! أفضل من المقاومين الذين بدورنا يجب أن نعتقد زورا وبهتانا أنهم جميعا مجرمون وقطاع طرق وطلاب أتاوات وإرهابيون وضالون مضلون ،إنما أفسدهم بن لادن وغيرهم من زعماء الإرهاب الدولي لهذا اليوم الأميركي الموعود في العراق!
يريدوننا أن نعتقد مع كل تلك المقدّمة وبالإضافة إلى ذلك بأن الجنود المتعددة الجنسيات في العراق ليس لديهم أية مشكلة مع الشعب العراقي بأكثريته الساحقة ؛لولا حفنة من المتسللين الذي تدفع بهم كل من طهران ودمشق عبر الحدود فقط وفقط ؛لتعكير صفو «شهر العسل» الأميركي مع العراق الجديد!
يريدوننا أن نصدّق ونعتقد أن النظام البائد لم يقتل ،ولم يقمع رموزا من الطائفة السنية الكريمة وعلمائها ونخبها، وما أكثرهم ؛لأنهم لم يكونوا موالين لنظامه المشبوه!
يريدوننا أن نصدّق بأن النظام البائد لم يصف قيادات وكوادر حزب البعث ولم يحوّل هذا الحزب إلى هيكلية شكلية تغطي نزوات وطموحات وأطماع طغمة أمنية شقيّة فاسدة مُفسدة لم يسلم منها حتى أبناء تكريت والعوجة.
يريدوننا أن نصدّق ونعتقد بأن النظام البائد لم يغزُ إيران ؛لأنها دولة تمردت على الأميركيين وتحررت من إملاءاتهم وأصبحت رافدا جديدا من روافد الصحوة العربية والإسلامية في المنطقة بل هاجمها وحاربها فقط وفقط ؛لأنها دولة شيعية فارسية ومجوسية أرادت التوسّع نحو العراق وإعادة إحياء الأمبراطورية الصفوية!
يريدوننا أن نصدّق ونعتقد بأن النظام البائد لم يغزُ الكويت - وهي دولة عربية سنية ومعتدلة وليست راديكالية ولا شيعية ولا صفوية - بضوء أخضر أميركي وتغطية مبرمجة كشفت الوقائع التالية بعضا من خفايا تلك الواقعة والمستقبل كفيل بأن تكشف المزيد!
يريدوننا أن نعتقد ونصدّق زورا وبهتانا ،أنهم يريدون الخير للعراق والمنطقة وأنهم جاءوا يخططون للتنمية ولمستقبل أفضل وأن الجميع بات متعاونا معهم لولا «حفنة» من الإرهابيين العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين ونظامي سورية وإيران الذين يشكلون محور شر مستطير! لا همّ له سوى وضع العصيّ في دواليب التسويات والاتفاقات والمعاهدات والخطط الخمسية والعشرية لتنمية المنطقة بقيادة الطليعة المتقدمة لديمقراطية الغرب الرأس مالي الليبرالي المتسامح ؛أي دولة «إسرائيل»! وهنا بيت القصيد في كل ما يريدون ويحلمون أن تكون عليه منطقتنا وبلادنا.
هنا نهاية التاريخ والجغرافية والإيديولوجيا والسياسة والفكر والتخطيط. وهنا سفر الدخول إلى العراق، وسفر الانتقال بالفتنة منه إلى سائر دول المنطقة... وما حكاية السنة والشيعة واقتتالهما المبرمج و المنظم والمعدلة بدقة متناهية في كل صغيرة وكبيرة إلاّ كما قال يوما الشاعر المصري الشهير محمد فؤاد نجم «حتى يلخبطونا في نظام وذنك منين» أو كما يقول المثل الإيراني الشهير «الخسن والخسين ثلاثتهم بنت مغاوية».
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1586 - الإثنين 08 يناير 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1427هـ