من ينظر إلى المشاهد السياسية وتحولاتها الميدانية في العراق ولبنان وفلسطين يجد الكثير من التشابه في العموميات. فالمشاهد تشترك في سياسة واحدة وهي إهمال العدو والدخول في مواجهات أو منافسات محلية تثير الحساسيات الأهلية. المشاهد واحدة في البلدان الثلاثة حتى لو اختلفت في التفصيلات والجزئيات. في بلاد الرافدين نجح الاحتلال الأميركي في تقويض الدولة وتمزيق العلاقات الأهلية وبعثرتها إلى مراكز قوى مناطقية تبحث عن مكاسب خاصة بالتفاهم مع إدارة الاحتلال أو من دون تفاهم.
وبغض النظر عن طبيعة مشروع كل طرف في المعادلة تكشف الممارسة الميدانية عن وجود خلل في الرؤية وضياع للبوصلة. فالكل يحارب الكل. وكل فريق يدعي الدفاع عن حقوق طائفته أو مذهبه أو منطقته في وقت يدير الاحتلال خيوط اللعبة معتمدا استراتيجية «فرق تسد». وهذا كما يبدو وجه من وجوه نجاحات إدارة «البيت الأبيض». فالرئيس الأميركي جورج بوش ادعى مرارا أن الولايات المتحدة حققت بعض أهدافها والاحتلال أصاب بعض النجاح وأنها لا تفكر في الانسحاب قبل استكمال ما تبقى من مشروعها.
النجاحات التي يدعي بوش تحقيقها في العراق لا يمكن أن تكون في تلك الشعارات الفارغة والمزيفة التي طرحها عشية الغزو وبعده وإنما يقصد تلك الفوضى الأهلية التي اجتاحت بلاد الرافدين وعصفت بالطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر. فهذه الفوضى التي تمثلت في عمليات خطف وقتل ونهب وحرق وإبادات وطرد للناس من أماكن إقامتهم ودفعهم للنزوح إلى مناطق متجانسة هي السياسة التي قصد بوش أنه حقق نجاحات بها.
الآن وبعد مرور نحو أربع سنوات على اتخاذ قرار الغزو يبدو العراق في أسوأ حالاته. فالمقاومة تراجعت وأصبحت محدودة وتقلص مجال عملياتها إلى محافظة أو محافظتين وفي بعض الأحيان ثلاث محافظات. والكراهية الطائفية والمذهبية انتشرت وتوسع نطاقها وخصوصا بعد نسف مرقد الإمامين في سامراء وصولا إلى مسرحية محاكمة الفتنة والأسلوب الصبياني الذي تمت به عملية إعدام صدام حسين. وكل هذه النتائج ليست عفوية وإنما يمكن القول إن الاحتلال الأميركي خطط لها عن عمد وقصد حتى لو ادعى البراءة من كل ما يحدث. الإدارة الأميركية مسئولة مباشرة عن كل التداعيات التي عصفت ببلاد الرافدين وهي تتحمل المسئوليات المعنوية والخلقية والسياسية والقانونية عن كل ما جرى لأنها من الناحية الدولية هي الطرف الذي اتخذ قرار الاجتياح ولأنها أيضا من الناحية العملية تقصدت زرع بذور الفتنة لإنتاج دويلات طوائف حين تكون الفرصة مناسبة.
هذا في بلاد الرافدين. أما في بلاد الأرز فإن المسألة متشابهة وإن اختلفت في خصوصياتها. فالآن يشهد لبنان حالات ليست بعيدة في جوهرها عن تلك الصور التي مر بها العراق. ففي العراق نجحت أميركا في شطب هذه الدولة العربية من معادلة الصراع وحولتها إلى أشلاء طائفية ومذهبية تتنافس على كسب ود الاحتلال لتمرير هذا المكسب أو ذاك. وفي لبنان نجح العدوان الأميركي - الصهيوني في توجيه ضربات عنيفة للمشروع العربي في بلاد الأرز وحوّل الساحة الداخلية إلى مراكز قوى تريد استجداء المكاسب من دون وعي لخطورة المسألة وما ستؤدي إليه من تنافرات طائفية ومذهبية. في لبنان أيضا بدأت البوصلة تضيِّع الاتجاهات وأخذ كل فريق يشد التعارض إلى حال من الانقسام الأهلي، والأخير سيدفع بآلياته الخاصة إلى مزيد من التشقق الطائفي والمذهبي الذي لن يكتمل من دون حدوث صدامات وتصادمات توزع الناس على مناطق متجانسة في تكوينها الأهلي.
الآن وبعد أقل من خمسة أشهر على وقف العدوان انكفأت المقاومة إلى الداخل وانتشر الجيش اللبناني معززا بقوات دولية وانكشفت الأرض على دمار هائل في البنى التحتية والسكانية. حتى الخطابات السياسية التي كانت تركز على فلسطين والتحرير والأسرى غابت كليا (أو جزئيا) عن الساحة اللبنانية لتأخذ مكانها خطابات تلونت بالانقسامات الأهلية. وهذه النتيجة المفجعة هي ما أراد العدوان تحقيقه عندما قرر زعزعة استقرار بلاد الأرز ودفعها إلى مواجهات محلية لن تستقر من دون أن تكرر المشهد العراقي.
المأساة الفلسطينية
في بلاد كنعان يمكن ملاحظة المنظر المعيب من خلال تلك التشنجات السياسية التي تعصف يمنة ويسرة بحركة المقاومة الفلسطينية. وهذا المنظر المخجل ليس بعيدا عن ذاك المشهد المضطرب أهليا في العراق ولبنان. فلسطين الآن وبعد أقل من سنة على فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية ونجاحها في تشكيل حكومة دخلت في حال من ازدواجية السلطة بين الرئاسة ورئيس الوزراء. وهذه الازدواجية السياسية شكلت المدخل الخطأ لتكوين مراكز استقطاب تدفع التعارض إلى وجهة مضادة لمقاومة الاحتلال الصهيوني وحصار «إسرائيل» للشعب داخل جدران العنصرية.
سياسة «فرق تسد» التي تتحكم الآن بالشوارع في غزة ومدن الضفة الغربية تشبه كثيرا تلك السياسة التي تدير حركة الصراع الدموي في العراق والسلمي حتى الآن في لبنان. وإذا اختلفت سياسة «فرق تسد» الفلسطينية عن تلك الحاصلة في بلاد الرافدين وبلاد الأرز بسبب التكوين الأهلي المتجانس لشعب بلاد كنعان فإن الآليات متشابهة في طبيعة فرزها للقوى وتشتيت الاتجاه وتجاهل الاحتلال والتنافس على مكاسب فاسدة أو تافهة. والمشكلة في الموضوع الفلسطيني ستكون مضاعفة وأسوأ من تلك المشاهد السلبية في العراق ولبنان. فالمسألة الفلسطينية شكلت للحركة العربية خلال السنوات المئة نقطة جذب للقوى وأعطت قيمة لكل حركة سياسية رفعت شعار تحرير فلسطين وإعادة الحق إلى أصحابه. والآن وبعد ذاك المسار الطويل الذي أنتج الحروب والمعارك انقلبت المقاومة على نفسها وتحولت البندقية إلى تصويب رصاصاتها إلى الداخل بطريقة عشوائية أو مفتعلة. وهذا بحد ذاته يعتبر كارثة بالنسبة إلى موضوع ارتقى في حساباته العربية إلى مرتبة المقدسات.
لاشك في أن المشاهد المتكررة في العراق ولبنان وفلسطين تشير إلى وجود خطأ ما، ولكن الواقع يكشف عن حالات من الأعراض السياسية بدأت تتحكم بذاك المسار العام الذي رسم تلك اللوحة الزاهية عن مشروع عربي وحدوي وتوحيدي. الآن وبعد مرور قرن على تلك التجارب الفاشلة بدأت تظهر تشققات في الميدان تأخذ صورة الواقع المنقسم أهليا. فاللوحة الزاهية الألوان أخذت تتفكك على الأرض وبدأت الألوان تتغير لترتسم مجددا في لوحات متنافرة وغير منسجمة ومتعارضة مع تلك الوحدة.
أسئلة كثيرة تطرحها مشاهد الانقسامات السياسية والأهلية في ضوء التحولات الجارية ميدانيا في العراق ولبنان وفلسطين. فهل مثلا انتهى مشروع الفكرة العربية (الإسلامية) ودخلت المنطقة في خطة مضادة؟ وهل المنطقة مقبلة على مزيد من الانقسامات والتقسيم كبديل منطقي عن فشل مشروع توحيد الكيانات العربية في اتحاد واحد؟ وهل أن الواقع بما يعنيه من تاريخ طوائف ومذاهب ومناطق (ملل ونحل) أقوى من سياسة المصالح التي تستهدف إعادة إنتاج دولة تتجاوز ذاك التفكك الأهلي؟
كل هذه الأسئلة هي مجرد تساؤلات، ولكن منطق الفوضى الذي بدأ يشق طريقه من العراق إلى لبنان إلى فلسطين يؤكد من جديد تلك الخطورة التي أخذت تزعزع الفكرة العربية ومشروع التوحيد الإسلامي. فمن ينظر إلى تلك المشاهد السياسية وتحولاتها في بلدان الرافدين والأرز وكنعان يجد الكثير من التشابه في العموميات. فالكل يشترك بوعي أو من دون وعي في سياسة إهمال العدو والاحتلال والدخول في منافسات محلية لا وظيفة لها سوى إثارة الحساسيات الأهلية وما تستتبعه من تداعيات تسهم في ترسيم حدود الدويلات والكانتونات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1586 - الإثنين 08 يناير 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1427هـ