في اللقاء الذي جمع المتابع لملف التفاوض النووي الإيراني علي لاريجاني والرئيس الصيني هو جينتاو في بكين حث الرئيس الصيني إيران على التعامل بإيجابية مع القرار 1737 في اعتبار أن صدور القرار تحت «الفصل السابع» بإجماع دول مجلس الأمن يعبر عن القلق السائد في «المجتمع الدولي» بشأن الملف النووي.
إشارة التنبيه التي صدرت عن الجانب الصيني ليست الأولى من نوعها إذ سبق وصدرت إشارات أوضح من الجانب الروسي. فموسكو حذرت مرارا طهران من عدم أخذ المواقف الدولية بجدية أو التعامل معها باستخفاف. الكثير من التنبيهات يمكن رصدها خلال فترة السنتين الماضيتين وهي كلها صبت في اتجاه التحذير وعدم التقليل من خطورة نقل الملف من نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا إلى دائرة مجلس الأمن. إلا أن الرياح جرت عكس «ما تشتهي السفن». ونجحت واشنطن متبعة أسلوب المناورات الطويلة المدى في دحرجة الملف ونقله خطوة بعد خطوة من فيينا إلى نيويورك. وفي الأمم المتحدة اتبعت واشنطن الأسلوب نفسه في المناورة أو المماطلة بغية إظهار نفسها بأنها تقف في الموقع المتفرج ولكنها كانت تعمد من وراء الكواليس إلى إبقاء الملف على نار حامية حتى لا تفوت فرصة صدور قرار دولي بشأن الملف.
آنذاك كانت إيران تراهن على مجموعة عوامل ظنا منها أنها كافية لمنع أو عرقلة صدور قرار دولي بشأن ملفها. وأبرز ما راهنت عليه طهران ارتكز على نقاط عدة تتصل أولا بضعف الموقف الأميركي في العراق وحاجة واشنطن إلى مساعدات إقليمية لإنقاذها من الورطة. وثانيا بدء ظهور تشقق في مواقف الاتحاد الأوروبي ونمو ظاهرة تمرد في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا (دول كاثوليكية) تعاند أسلوب التسلط الفوقي للولايات المتحدة. وثالثا بدء عودة «الحرب الباردة» التي ظهرت ملامحها من خلال مواقف متميزة أبدتها موسكو وبكين وكشفت عن وجود حالات انزعاج من السلوك المتعجرف الذي اتبعته إدارة جورج بوش خلال سنوات حكمه.
بناء على هذا التحليل توصلت طهران إلى قناعة مفادها أن واشنطن وصلت إلى مرحلة التحلل ولم يعد بإمكانها التحرك كما كان عليه وضعها في العام 2001 وهي أصبحت في موقع صعب يضغط عليها للبحث عن مخارج لإنقاذ سمعتها وبالتالي فهي غير قادرة على الدفاع أو الهجوم وأقصى ما تتمناه هو الابتعاد عن تلك المداخل التي تورطها في مواجهات ستكون هي الطرف الخاسر فيها كما حصل في بلاد الرافدين.
هذا التحليل صحيح من جهة التوصيف ولكنه لم يكن دقيقا في حال درست عناصره واقعيا من جهة قراءة إمكانات الدولة الأولى في العالم وقدراتها على التأثير والتعديل والمساومة مع القوى الكبرى. وفي هذا الإطار صدرت الكثير من التلميحات من عواصم أوروبية وموسكو وبكين توضح أن مجال المناورة محدود في النهاية وعلى طهران أن تأخذ ما أعطي لها من «حوافز» و»إجراءات تشجيعية» لمنع واشنطن من نقل الملف إلى مجلس الأمن وتدويله.
إلا أن الرياح سارت عكس «ما تشتهي السفن» فانتقل الملف ونجحت الولايات المتحدة بعد مناورات دامت أكثر من ثلاثة أشهر في تسجين الأجواء الدولية إلى أن صدر القرار 1737 تحت «الفصل السابع». بنود القرار ضعيفة في لهجتها السياسية إلا أنها قوية جدا في استهدافاتها وغاياتها لأنها تربط عشوائيا بين البرنامج النووي والمشروع الصاروخي كذلك تلمح إلى وجود خطة لضرب أو محاصرة البرنامج التربوي والتعليمي والبحثي مضافة إلى خطة تفكيك البرنامج التصنيعي. وهذا ما حاولت موسكو وبكين الإشارة إليه حين نصحت إيران بضرورة التعامل بإيجابية مع القرار الدولي وقراءة بنوده بانتباه وجدية.
الآن لم يعد بإمكان إعادة الملف إلى فيينا إلا بعد صدور تعهد واضح من طهران بشأن مشروعها النووي السلمي. كذلك لا تستطيع إقناع دول مجلس الأمن صاحبة حق النقض (الفيتو) باتخاذ تلك الخطوة التراجعية من دون تقديم إثباتات ملموسة وعملية وميدانية تشير إلى توقف مشروع التخصيب الذي تعتبره واشنطن نقطة مفصلية في أي حوار إيجابي ومقبل مع إيران.
ليست سهلة
المسألة ليست سهلة. فأمام طهران مهلة أقل من شهرين لاتخاذ تلك القرارات الصعبة. وأمام واشنطن فترة قصيرة للبناء على مواد القرار 1737 وتطويرها باتجاه انتزاع المزيد من المواقف المتشددة بذريعة عدم تجاوب إيران مع رغبات «المجتمع الدولي». وحتى الآن تبدو الأمور سائرة نحو نهاياتها المجهولة من دون تعديل أو تصحيح. فطهران أعلنت رفضها بصراحة للقرار الدولي وواشنطن اتجهت نحو إرسال إشارات تصعيديه عسكريا (حشود برية وبحرية في العراق والخليج) مترافقة مع ادعاءات فارغة توحي أنها بصدد مراجعة استرايتجيتها. وبغض النظر عن الإشارة الصحيحة من الخاطئة لابد من أخذ السلوك الأميركي جديا لان الحروب في النهاية «خدعة». ومن يسيطر على السماء بقواته الجوية يستطيع التحكم بالمسارات الأخرى المائية والثابتة. كذلك من يملك القدرة على «الرمي» من بعيد يستطيع أن يتحكم بالكثير من المداخل والمنافذ. وأميركا في هذه المجالات هي الأقوى ولذلك تراهن على تلك الإمكانات كواسطة للخلخلة وإثارة الفوضى وتحطيم البنى التحتية. تبقى نقطة ضعف الولايات المتحدة على الأرض وفي القوات البرية وفي أسلوب تعاملها مع الناس ومشاعرهم. وهذا ما اكتشفته خلال تجربتها الميدانية في الموضوع العراقي.
هل تصل الولايات المتحدة إلى هذه المحطة وهي استخدام القوة العسكرية لوقف البرنامج النووي الإيراني؟ الإجابة حتى الآن لم تكتمل شروطها ولكن الإشارات السياسية والدبلوماسية المتتابعة التي صدرت من عواصم أوروبية وموسكو وبكين لا تستبعد هذا الاحتمال في حال سارت الأمور بين واشنطن وطهران وفق السياق الذي تتدحرج نحوه الآن.
إيران لاشك ليست العراق وبالتأكيد ليست أفغانستان. كذلك النظام في طهران ليس معزولا كما كان حال صدام حسين وطالبان فهو يتمتع بشعبية ساحقة وهناك قوى تملك الاستعداد للدفاع عنه والتضحية من أجله والتصدي بقوة لكل محاولة غزو بري. فهذه العناصر تملكها إيران معززة بأوراق قوة تقنية وصاروخية تعطيها مناعة للدفاع أو الرد. كذلك تتمتع طهران بعلاقات خاصة ومميزة مع مجموعات سياسية قادرة على التحرك سواء في العراق أو فلسطين أو لبنان.
مجموع هذه العوامل تشكل مجتمعة عناصر قوة تضغط على الولايات المتحدة نفسيا وتعطل عليها حرية التحرك لأنها مضطرة أن تأخذ كل التداعيات الميدانية في الاعتبار. ولاشك في أن واشنطن ستراجع كل هذه الحسابات في حال قررت أن تلجأ إلى خيار القوة. وهذا بالضبط ما جعل إدارة واشنطن تفكر مرتين قبل اتخاذ أي خطوة من الخطوات. ولكن المشكلة ليست هنا بل في تلك العقلية المريضة التي تتحكم بالسياسة الأميركية. فالرئيس الأميركي الذي يبدو في حال غرق لا يخشى من «البلل». وبسبب هذه الحال المحكومة بالاستعداد نحو تكرار التجربة مهما كانت النتائج يمكن تلمس مظاهر الحشد العسكري والرسالة التي يريد توجيهها. وهذا ما حاولت بكين وموسكو وعواصم أوروبية التحذير منه.
الخيار العسكري إذا ليس مناورة أو للتخويف. قد يكون كذلك ولكنه ليس كذلك في حال تمت مراجعة التبديلات في الأسماء والمواقع التي أقرها بوش تمهيدا لإعلان استراتيجيته في مطلع الأسبوع المقبل.
التعديلات شكلية وسيئة وهي تكشف عن نزعة استعلائية تميل إلى تفضيل خيار المغامرة والانسحاب إلى الأمام. ولذلك تتجه القراءات العسكرية إلى تغليب احتمال استخدام أميركا القوة معتمدة في الدرجة الأولى على القدرة الصاروخية (البعيدة المدى) والطيران والحشد البحري. فواشنطن كما يبدو لا تخطط للغزو البري ولا تفكر بإرسال قوات ميدانية حتى تتجنب المواجهات الأرضية التي لن تكون لمصلحتها.
هذا على الأقل ما تشير إليه التحليلات التي تجتهد لقراءة إبعاد الحشود البحرية في المناطق القريبة من السواحل الإيرانية. فالحشود هي للضغط والتهويل على طهران حتى تتراجع عن برنامج التخصيب قبل نهاية مهلة الشهرين في مطلع مارس/ آذار المقبل. كذلك قد تعني إشارة قوية لذاك الاحتمال الذي تتردد واشنطن في الإعلان عنه رسميا حتى الآن. ولكن التبديلات التي أقدم عليها بوش ركزت على إعطاء ادميرالات البحر المناصب التقريرية العليا كذلك أبعدت جنرالات البر لمصلحة فريق يؤمن بأن القوة الميدانية تعتمد على الحشد البشري (البري) وليس على النوعية (قوات نخبة).
الأمور إذا لا تبعث على الاطمئنان فهي تسير وفق مناورة ترسل إشارات متعارضة باتجاهين أولهما سلمي تسووي وآخرهما عسكري حربي. وبين إشارات التقاطعات تكمن «الخدعة» وهي مهمة وخطيرة وتحتاج إلى تفكير وتقدير لتداعياتها. وهذا بالضبط ما حاول الرئيس الصيني التنبيه إليه خلال اللقاء الذي جرى مع لاريجاني في بكين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1584 - السبت 06 يناير 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1427هـ