يستعد الرئيس الأميركي جورج بوش لإعلان استراتيجيته الجديدة في مطلع الأسبوع المقبل. وقبل اقتراب موعد الخطة بدأت الصحف الأميركية تسرب بعض عناوين تلك الاستراتيجية في العراق ومنطقة «الشرق الأوسط». وتشمل تلك العناوين مجموعة تبديلات تطول الخارجية والدفاع وأجهزة المخابرات وبعض المواقع الميدانية والدبلوماسية في بغداد ونيويورك.
التبديلات تبدو غير جوهرية ولكنها في النهاية تعكس أزمة تمر بها الإدارة الأميركية على مختلف المستويات الداخلية والخارجية. وهذه الأزمة بدأت بالضغط على «البيت الأبيض» وفرضت عليه تنازلات جزئية تتصل بمجموعة نقاط منها تلك التي تتصل بالورطة في العراق والسياسة المتبعة تجاه الملف النووي الإيراني والموضوع الفلسطيني.
العراق لاشك يحتل أولوية في الملفات الساخنة المطروحة على طاولة بوش. ولكن هذه الأولوية لا تتحرك بمعزل عن المحيط الجغرافي ودول الجوار. ولذلك تبدو الأمور مترابطة. وبسبب ترابط حلقات السلسلة يجد الرئيس الأميركي نفسه في ورطة كبيرة؛ لأنه غير قادر على التعامل مع الملف العراقي من دون أخذ مجموعة النتائج في الاعتبار. وبهذا المعنى يمكن أن نجد في تلك السياسة الجديدة التي سيعلنها بوش في مطلع الأسبوع المقبل إشاراتٍ متعارضة تجمع بين «العصا» و «الجزرة». فالجزرة هي للتفاوض والتبادل والبيع والشراء والعصا هي للتخويف والابتزاز والتهديد.
إدارة بوش ضائعة ومضطربة ولذلك وجهت سياستها نحو خطوات غير مفهومة. فهي من جانب ترسل إشاراتٍ مرنة توحي بأن واشنطن على استعداد للتفاوض والتراجع والانسحاب على خطوات متدرجة تنتهي في العام 2008. وهي من جانب آخر ترسل إشاراتٍ قوية تكشف عن وجود خطوة تصعيدية تقوم على فكرة تعزيز القوات البرية في العراق وحشد المزيد من السفن والبوارج والغواصات والحاملات والكاسحات في مياه الخليج.
هذا التعارض بين «الجزرة» و «العصا» يعطي فكرة موجزة عن أزمة إدارة الملف السياسي في العراق ومحيطه. فالانسحاب مثلا يعني ضربة استراتيجية للمصالح الأميركية وبداية تفكيك المنظومة الأمنية الإقليمية في المنطقة. وعدم الانسحاب أيضا يعني مشكلة وزيادة الضغط على المصالح الأميركية، وربما تؤدي إلى إعادة النظر في المنظومة الإقليمية في المنطقة. التفاوض بدوره يضع الإدارة في موقع غير مستحب؛ لأن بوش سيجد نفسه في مكان ادعى خلال السنوات الأربع الماضية أنه يعمل على تغييره وتعديله. وعدم التفاوض يعني أيضا أن الإدارة مستمرة في سياسة كيدية لا تكترث للخسائر أو النتائج وبالتالي ستبقى عُرضة للهجمات والتشكيك وغيرها من تداعيات تهدد استقرار المحيط الجغرافي للعراق وتحديدا دول الجوار المعنية بالأزمة أكثر من غيرها.
هذه الحيرة يمكن قراءة عناوينها من خلال تلك التسريبات الصحافية التي تحدثت عن تبديلات في الاستراتيجية ولكنها لم تكشف عن وجود تغييرات جوهرية. فالتبديلات في المواقع والأسماء والرموز لا تعني بالضرورة أنها تعكس تغييرات في السياسة العامة للاستراتيجية. فهل التبدل خطوة لشراء الوقت وتسكين للاعتراضات التي تواجه الإدارة من الداخل الأميركي أم أنها تعكس بداية وعي للأزمة وخطوة أولى على طريق طويل وصعب؟
حتى الآن لا يبدو أن الإدارة تفكر في سياسة انقلابية ولكنها أيضا تحاول أن تظهر أمام الرأي العام (ودافع الضرائب) إنها تخطط إلى ابتكار أساليب جديدة في التعامل مع الأزمة أو على الأقل التخفيف من تلك الورطة في العراق.
قلق وعدم وضوح
إلا أن قراءة سريعة للعناوين تكشف عن وجود قلق وعدم وضوح وغموض في الأهداف. مثلا، ماذا تريد أميركا من ذاك الحشد البري والبحري في العراق والخليج؟ وما الرسالة التي تريد بعثها إلى دول المنطقة وإيران من بينها؟ كذلك لماذا حددت إدارة بوش بغداد ومحافظة الأنبار دائرة لنشر القوات الإضافية؟ وأيضا لماذا تطلق إدارة بوش تصريحاتٍ متعارضة في اتجاهاتها فهي ترسل الوفود للتفاوض مع دمشق ثم تعلن قراراتٍ ضد مؤسسات سورية بقصد محاسبتها بتهمة تمويل شبكات إرهاب؟
كل إشارة تعني سياسة مختلفة وتعارض ما قبلها. الحشد العسكري في العراق والخليج يعني أن واشنطن تستعد لمعركة سياسية/ دبلوماسية مع إيران قد تنتهي إلى مواجهة عسكرية. وإرسال قوات إضافية إلى بغداد والأنبار تعني أن واشنطن اتخذت القرار بالقضاء على المقاومة في «المناطق السنية» بعد إعدام صدام حسين وهذا الأمر تستفيد منه تلك القوى السياسية المدعومة من طهران. كذلك يمكن قراءة التعارض نفسه في نهج التعامل مع دمشق. فإرسال وفود الكونغرس إلى العاصمة السورية يعطي إشارة ايجابية للنظام هناك ويطلق فسحة أمل بوجود مراجعة أميركية للتعامل مع أزمات المنطقة من العراق إلى فلسطين. في المقابل، توجه واشنطن إشاراتٍ مضادة تعكس سياسة تقليدية تقوم على فكرة محاصرة النظام السوري وتطويقه جغرافيا ومنعه من التحرك خارج دائرة الدولة وجغرافيتها وحدودها.
المسألة إذا غير واضحة وما يقال في العلن ليس بالضرورة هو السياسة المتبعة في الواقع أو هي تلك السياسة الجديدة التي تريد واشنطن اتباعها في المنطقة في المستقبل القريب. وإذا كان كل ما يقال في العلن ليس هو الصحيح فإذا ما هو الصحيح؟
الصحيح هو أن الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها. والمصالح في السياسة هي الثابت الوحيد وكل ماعداها يتغير من صداقات وعداوات وتحالفات وخصومات. وإذا كانت المصالح الأميركية محددة في ثوابت استراتيجية تتلخص في الموقع الجغرافي لمنطقة آسيا/ أوروبا (اوراسيا) وحقول النفط وحماية الأنابيب وخطوط الإمداد والنقل وأخيرا أمن «إسرائيل» وموقعها ودورها ووظيفتها، فإن السياسة في النهاية تتحرك ضمن هذه المجالات الحيوية. وبالتالي فمن يضمن هذه المصالح أو من يستعد للتعاون لضمان هذه الأهداف الاستراتيجية يصبح هو الفريق المفضل للتفاوض معه بقصد طلب المساعدة على تسيير الأمور بأقل الخسائر الممكن تحملها في الشارع الأميركي.
هذه المسألة ثابتة وهي يمكن أن توضح الكثير من الزوايا الغامضة في الاستراتيجية الجديدة للإدارة الأميركية. فواشنطن حتى الآن اكتفت بإرسال إشارات متعارضة تتراوح بين «الجزرة» و «العصا». والسؤال: من سيأكل الجزرة ومن سينال عقاب العصا؟ الجواب يحتمل التأجيل وخصوصا أن رياح التغيير لم تبدأ ولكن عناوين التبديل تدل على وجود خطة مختلفة. والاختلاف لم تعرف حتى الآن اتجاهاته.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1583 - الجمعة 05 يناير 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1427هـ