تسابقت الجهات الرسمية من وزارات وهيئات حكومية وشركات وطنية على نشر ردوددها في الصحافة المحلية بشأن ما ورد عنها في تقرير ديوان الرقابة المالية للعام 2005 الذي صدر أخيرا. حرصت تلك الجهات أن تبين في ردودها تلك، تصريحا أو تلميحا، أنها قامت - قدر استطاعتها - بإصلاح الخلل في أجهزتها، والاعتماد على ملاحظات تقرير ديوان الرقابة المالية السابق بشأن عملها، وأنها «نفذت» هذه الملاحظات، أو تقوم بتنفيذها، أو ستقوم بتنفيذها.
لم يفت تلك الردود الرسمية أن تركز على شكر ديوان الرقابة المالية أولا على جهوده التي قام بها، وركزت أيضا على التأكيد أن الملاحظات التي تضمنها التقرير ليست « تجاوزات» وإنما هي « ملاحظات» وأوجه قصور لها أسبابها. وفي الوقت الذي فندت فيه بعض الردود أسباب ذاك القصور « تفصيلا»، اكتفت ردود أخرى بإلقاء الضوء على الإنجازات ردا على الإخفاقات التي تعرض لها التقرير بشأن كل منها.غير أن جميع تلك الردود كانت « متقنة» جدا.
« التقاعد» واستجابة سريعة
الاستجابة الأولى جاءت سريعا من الهيئة العامة لصندوق التقاعد، بعد يوم واحد من نشر تقرير ديوان الرقابة المالية، إذ فند الرد الذي أوردته الهيئة على لسان مديرها العام راشد المير ما ذكره تقرير ديوان الرقابة تفصيلا، مؤكدا أن الهيئة «عملت على تنفيذ معظم الملاحظات والتوصيات منذ استلامها نتائج تقرير ديوان الرقابة المالية في نهاية شهر يونيو/ حزيران من هذا العام». كما حرص الرد على ذكر تقديره للديوان بقوله»مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية في الهيئة يوليان أهمية خاصة ويأخذان في الاعتبار أي ملاحظة قيمة ترد من ديوان الرقابة المالية أو المدقق الداخلي وتعمل على تنفيذ ما يرد بها من توصيات».
«بابكو»: لا تجاوزات ولكن ملاحظات
لم يثر ما ورد بشأن الهيئة العامة للتقاعد رد فعل قوي لدى المراقبين وأبطال الشارع السياسي يوازي رد فعلهم على ما ورد بشأن شركة نفط البحرين (بابكو)، ربما لضخامة الأرقام التي تضمنها التقرير بشأنها. وهو الأمر الذي حدا بالشركة أن تنشر ردا طويلا آخر في الصحف أيضا في اليوم التالي لنشر رد الهيئة العامة لصندوق التقاعد. لم يفت بابكو أن تتقدم بالشكر لديوان الرقابة المالية - أيضا - على جهوده الكبيرة، مثلما لم يفتها أن تؤكد أن ما تضمنه التقرير بشأنه ليس «تجاوزات» وإنما هو مجرد «ملاحظات» يعمل بها في الشركة حاليا من أجل تطوير الأداء. نص رد الشركة على أنها تؤكد أن التقرير لم يتطرق إلى أية تجاوزات من شركة بابكو ولكن بعض الملاحظات والتوصيات التي استهدفت التطوير في الأداء واتخاذ القرار، وأن الشركة ملتزمة بتوصيات التقرير، ولا سيما وأنها طبقت حتى الآن معظم توصيات تقرير الرقابة المالية في العام الماضي، ومن المقرر الانتهاء من تنفيذ بقية التوصيات في الربع الأول من العام 2007. فصلت بابكو في ردها أيضا ما تم تنفيذه من ملاحظات ذكرها تقرير ديوان الرقابة المالية السابق في دوائر متعددة، ذاكرة كيفية التنفيذ ومراحله والملاحظات عليه.
«التأمينات»: العجز الاكتواري مشكلة «عالمية»
وفي اليوم التالي، نشرت الصحف ردودا لثلاث جهات كبيرة أخرى، هي الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، وحلبة البحرين الدولية، وشركة ألمنيوم البحرين (ألبا)، وضع كل منها جهده ليفصل أسبابه، تبريراته، أو رده على التجاوزات التي تردد أنها حصلت في جهازه.
رد الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية تضمن بشكل رئيسي شرحا بشأن مشكلة «العجز الاكتواري» الذي تتعرض له الهيئة، مفصلا مفهوم هذا العجز، ومطمئنا المواطنين بأنه «لا يزال هناك متسع من الوقت لاحتواء هذه المشكلة طويلة الأمد وأن مركز الهيئة متين، إلا أن هذا الأمر يتطلب بلا شك التحرك لتصحيح الأوضاع والقبول بما ستضطر الحكومة إلى اتخاذه من إجراءات وقائية».
شرح الرد تاريخ مشكلة العجز الاكتواري، وأسباب تفاقمها، ولم يفته أن يشير إلى أن هذه المشكلة «تعاني منها معظم صناديق التأمين الاجتماعي في العالم، إن لم يكن جميعها»، وكأنما أراد أن يشير إلى أن المشكلة ليست «محلية» فحسب. ولم يفت الهيئة أيضاَ أن تؤكد في ردها أنها قامت «بتنفيذ جميع مطالب لجنة التحقيق التي شكلها مجلس النواب في العام 2002» كتأكيد التزامها «المطلق» بتنفيذ أية توصيات وملاحظات بشأن عمل الهيئة.
«حلبة البحرين»:مدخولات بالملايين
حلبة البحرين الدولية بدورها لم تكن في وضع جيد بعد نشر تقرير ديوان الرقابة المالية، وخصوصا بعد أن أوضح استمرارها في تحقيق الخسائر التي بلغت حتى سبتمبر/ أيلول الماضي نحو 49 مليون دينار، والتي غطتها وزارة المالية بنحو 25 مليون دينار من أكتوبر/ تشرين الأول، وحتى يوليو/ تموز من العام 2006. هذه الأرقام التي وصفت «بالمفزعة» دفعت الحلبة الى أن تنشر ردا مقتضبا على لسان رئيس مجلس إدارتها طلال الزين لم تشر فيه إلى الخسائر التي تكبدتها، ولكنها أشارت إلى ما حققته الحلبة الدولية من إنجازات وعائدات اقتصادية للبحرين. ذكر ردها أن ملاحظات تقرير ديوان الرقابة المالية بشأن الحلبة «جاء ليغطي الفترة الواقعة بين العامين 2004 و2005، وهي المرحلة التأسيسية للحلبة».
ولم ينس الرد استفادته من التقرير الذي تميز «بالشفافية والنزاهة»، وأنها حرصت على تنفيذ معظم الملاحظات والتوصيات التي جاءت فيه منذ أن تسلمته في يونيو الماضي. وذكر الرد أيضا أن «الحلبة حققت مدخولات بالملايين للمملكة بصورة مباشرة وغير مباشرة من خلال استضافتها حدثا عالميا هو إحدى جولات بطولة سباق الفورملا واحد (...) عوضا عن السمعة العالمية التي حظيت بها المملكة من جراء استضافة هذا الحدث الكبير».
رد الحلبة أكد أيضاَ أنها «عملت منذ استلامها التقرير على الاستفادة من توصياته من خلال وضع السياسات والإجراءات واللوائح والأنظمة الإدارية والمالية والمحاسبية لتستكمل المشوار الذي بدأته قبل تسلمها للتقرير».
«ألبا» تعد بتشكيل لجنة لدراسة التقرير
ثم جاء رد شركة البحرين للألمنيوم (ألبا) ليوضح «أي لبس» قد يقع لدى الرأي العام بشأن الملاحظات التي أوردها تقرير ديوان الرقابة المالية. مفصلا جميع النقاط التي تقرر لها التقرير بشأن «ألبا»، والمنجزات التي تحققت - حتى الآن - بشأن ملاحظات تقرير ديوان الرقابة السابق. ولم يفت رد الشركة الذي جاء على لسان الرئيس التنفيذي للشركة أحمد صالح النعيمي أن يذكر بأن رئيس مجلس إدارة الشركة ونائبه شكلا لجنة «لدراسة محتويات تقرير الرقابة المالية وأخذ الإجراءات اللازمة».
«الخدمة المدنية» يراجع أنظمته
وفي اليوم التالي نشرت الصحف أيضا ردين وردا من كل من ديوان الخدمة المدنية والجهاز المركزي للمعلومات، وذلك تنفيذا لتوجيهات مجلس الوزراء للأجهزة الحكومية كافة لإبداء موقفها وملاحظاتها على ما ورد في التقرير. تعقيب ديوان الخدمة المدنية جاء على لسان رئيسه أحمد البحر مفندا النقاط كافة التي وردت في التقرير بخصوص الديوان، ومركزا على موضوع شراء سنوات الخدمة الافتراضية، والترقيات الاستثنائية، والتقاعد الإلزامي وإلغاء الوظيفة بسبب الخصخصة. فيما أكد الديوان في رده أيضا أنه «يعمل على مراجعة الأنظمة والقرارات كافة المتعلقة بشئون الخدمة المدنية». أما رد الجهاز المركزي للمعلومات فبعد شكره «أيضا» لكل من الديوان والصحافة على «النزاهة والشفافية»، أورد ملاحظة اعتبرها رئيسية على ما ذكر بشأنه فيما نشر من التقرير. مشيرا إلى أن «التقرير احتوى على جميع الردود للنقاط المثارة في التقرير غير أن ما نشر منه هو فقط ملاحظات الديوان» مؤكدا أن «الجهاز أرسل ردوده في حينها كما أنه انتهى من تنفيذ جميع توصيات الديوان». وبعد أن شرح تفصيلا مشروع البطاقة الذكية مفندا ملاحظات الديوان عليها، أكد أن «التوصيات الواردة في التقرير ستؤخذ في الحسبان وتكون نصب عين الجهاز عند إعداده المشاريع الوطنية المقبلة».
«الصناعة» و«هيئة المعارض»
جاء دور هيئة البحرين للمعارض والمؤتمرات في اليوم التالي لتنشر ردا مطولا جدا بشأن ما ورد في تقرير الديوان. لم تشكر الهيئة الديوان ولم تشكر الصحافة، لكنها فندت كل النقاط التي وردت بشأنها في التقرير، ولم تنس أن تذكر أن نتائجه أكدت « النتائج التي توصلت وزارة الصناعة والتجارة اليها في تقييمها لواقع حال الهيئة، وكانت معززة للخطوات الإصلاحية التي اتخذتها الوزارة خلال العامين 2005-2006» واعتبرت من الضروري تسليط الضوء على تلك الخطوات الإصلاحية «لما له من تعزيز لعدالة عرض نتائج تقرير الرقابة على أداء الهيئة».
وأوضح رد الهيئة أيضا أن الملاحظات الواردة في التقرير «هي للفترة التي سبقت دمج وزارتي الصناعة والتجارة، وبناء على قرارات وعقود سابقة، إذ يجري الآن تصويب العديد من الجوانب التي أدت إلى تعديل تلك الملاحظات». ولم يذكر الرد الذي نشرته وزارة الصناعة والتجارة في نفس اليوم تفصيلا عن رد هيئة المعارض، إذ أوضحت فيه تفنيدا واسعا لجميع النقاط التي وردت بشأنها في تقرير ديوان الرقابة المالية.
«السياحة»: معالجة السلبيات كافة
وبعد مرور أسبوع من نشر التقرير، نشرت الشئون السياحية في وزارة الإعلام ردها المتعلق بما ورد بشأنها في التقرير، موضحة في البداية أن ما احتوى عليه من معلومات «تعود للعام 2004، وأن وزارة الإعلام أنجزت جل الملاحظات التي احتوى عليها التقرير». «السياحة» كانت «لطيفة» في ردها بشكل فاق «الصناعة» و«هيئة المعارض»، إذ بدأت بالإشادة بالدور الرقابي لديوان الرقابة المالية ومساهمته في «تصحيح القضايا التي تحتاج الى معالجة»، ولم يغفل الرد أن يذكر بأنه تمكن من» معالجة الكثير من السلبيات التي أوردها التقرير، وأن الهيئة تمكنت من القيام بتجديد تراخيص جميع الفنادق السياحية حتى نهاية العام 2006». وبعد شرح مستفيض لسياسة ورؤية الهيئة، شددت على ضرورة «التعاون مع ديوان الرقابة» مع الإشادة بقدراته ودوره في تجاوز السلبيات في العمل، وشددت على « جديتها في تطوير واقع السياحة في البحرين بما يعظم من إسهامه في الناتج المحلي وتطوير الاقتصاد الوطني».
«الخارجية» تهاجم الصحافة
أما وزارة الخارجية، فبدأت ردها بهجوم «عنيف» على الصحافة المحلية لأنها قامت بنشر ملاحظات ديوان الرقابة المالية للعام 2005 من دون الإشارة إلى ردود الوزارة الواردة في التقرير نفسه، الأمر الذي «يخل بمبدأ الحيادية» بحسب وصف الوزارة. ولذلك ارتأت أن تبين ردودها تلك للرأي العام من أجل «تعزيز مبدأ الشفافية و تفادي أي لبس (...) وتأكيدا للثوابت التي تسير عليها الوزارة في حفاظها على المال العام». وفند الرد كل النقاط التي ذكرت بشأن الوزارة في التقرير، ولم ينس أن يشكر ويثمن جهود ديوان الرقابة المالية على ما قام به.
«كأنك يا بوزيد ما غزيت»
لا يزال من المتوقع أن تتوافد ردود الجهات الرسمية الأخرى تباعا للنشر بشأن الملاحظات التي أوردها تقرير ديوان الرقابة المالية، فيما يتوقع أن تؤكد غالبيتها - على رغم كل ما ورد بشأنها في التقرير - عدم وجود تجاوزات فيها، مفندة كل ما جاء في التقرير. ولا يزال يتوقع أيضا أن يقع الناس في حيرة من أمرهم، من يصدقون الديوان أم ردود المؤسسات الرسمية؟ ومع هذه الردود المتقنة والمفندة لكل
ما ذكر من تجاوزات في تقرير ديوان الرقابة المالية، يبقى السؤال: ما الداعي إذا إلى تقرير للرقابة المالية إذا كان سيتم تفنيد كل نقاطه في النهاية؟، «وكأنك يا بوزيد ما غزيت».
العدد 1583 - الجمعة 05 يناير 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1427هـ