خلال ورشة عمل عن قضايا الأسرة أقيمت بدولة الكويت، قدمت أفكارا أرغب في استعراض بعضها في مقال اليوم.
من ذلك، يوجد رأيان في القوانين المرتبطة بالرجل والمرأة، أحدهما يقول إنها مرتهنة بالطبيعة الثابتة لدى كل منهما، فالرجل هو الرجل الى الأبد والمرأة هي المرأة الى الأبد. وكذلك نمط العلاقة بينهما.
وعليه، يجب أن تقرر القوانين المنظمة لتلك العلاقة على أساس من الثبات واللاتغير. أما الرأي الآخر فيقول إنها تخضع الى تغير وتبدل متواصل يفرضه التطور التاريخي للمستوى الثقافي لكل من الرجل والمرأة، وبالتالي في نوع العلاقة بينهما.
وتبحث النظرية الأولى عن أحكام الرجل والمرأة والعلاقة بينهما على أساس الفوارق الطبيعية الثابتة منذ أول النشأة البشرية من دون افتراض أي تطور تاريخي يمكن أن يحصل على تلك العلاقة. أما النظرية الثانية فتبحث عن ذلك في سياق الوضع الحضاري الذي يتشكل ضمن تنوع مكاني وتراكم زمني تدريجي، فلا يكون موضوع الحكم الديني أو القانون المدني هو الرجل بشكل مطلق ولا المرأة بشكل مطلق، بل هما معا بالإضافة الى الزمان والمكان.
ومن هنا، يمكن الانطلاق الى أصل فقهي مشهور، وهو تغير الحكم بتغير الموضوع. فإذا كان الزمكان دخيلا في الموضوع فإن تغير الحكم بتغيره ليس من قبيل نسخ الشريعة ولا استبدالها بل هو تغير من داخلها وفي نطاقها. وقد نقل الشيخ محمد مجتهد شبستري عن الشهيد الصدر رحمه الله ما يتصل بذلك إذ قال في كتابه (نقد القراءة التقليدية للدين - طبع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية - تحت عنوان الفقه الإسلامي وحقوق المرأة): قبل أربع وعشرين سنة كان لي سفر الى العراق، وذهبت الى زيارة المرحوم السيد محمد باقر الصدر والذي كان فقيها متنورا، وتحدثت معه بشأن حقوق الزوج والزوجة وقال لي صريحا إنه في الزمان السابق كانت الحقوق بين الزوجين متفاوتة لأجل أن مسئوليات الحياة كانت جميعها على عاتق الرجل، وكان النسيج الاجتماعي يقتضي ذلك فأعطيت حقوق للرجل تتناسب مع ذلك النسيج، ولكن مع تغير النمط الاجتماعي وتطور وضع المرأة إذ أصبحت تضاهي الرجل في فرص التعليم، والعمل، والثقة بالنفس، والوعي الاجتماعي، والقدرة على الاستقلال في التدبير والإنفاق فمن اللازم تغير الأطر القانونية بالتبع، وقد قرر الفقهاء اختلاف الحكم باختلاف الموضوع، فالحكم ثابت على موضوعه ولكن تختلف مصاديقه باختلاف الحالات.
وينبني على هذا البحث أمور كثيرة، مثلا: يوجد خلاف فقهي قديم في مصطلح البينة في قول النبي صلى الله عليه وآله «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فهل المقصود بها خصوص الشاهدين أم كل ما يعطي القاضي وضوحا واطمئنانا، فبناء على الرأي الفقهي الثاني تكون وسائل الإثبات القضائي قابلة للتطور مع الزمان بل من الممكن ذلك أيضا حتى على الرأي الأول نظير محاولة المرحوم الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه فقه الإمام جعفر الصادق (ج6) تحت عنوان علم الحاكم ومدى تأثيره في القضاء إذ قال: «أما حديث إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان فهو منزل على الغالب من عدم العلم بالواقع وان الحكم بهما يكون حيث لا طريق سواهما» وكذا لا مانع عن دعوى تطور تطبيقات (المعروف) في قول الله تعالى «وعاشروهن بالمعروف» (النساء: 19) فالمعروف في زمان كان يتمثل في أن يطعمها الزوج، ويكسوها، ويغار عليها، ويحميها من اعتداء سائر الرجال فحسب. ولكنها اليوم اكتسبت حقوقا جديدة باكتسابها قدرات متجددة، فهذا نظير تطور مصاديق العدل والتي ذكرتها في بعض المقالات السابقة.
لقد أصبحت المرأة بمستوى وعي الرجل اجتماعيا، فلا معنى مثلا لأن يحكم عليها بحرمة السفر إلا بصحبة محرم، وخصوصا مع أمن السبل وسهولة السفر خلافا لما كان عليه الحال في الماضي. ذاك الحكم كان تدبيرا وحماية لها يوم كانت محتاجة الى ذلك، وأما اليوم فقد اختلف حالها فاختلف حكمها.
وهذا في الحقيقة ليس تصرفا في الحكم الشرعي بل هو ربط الحكم بموضوعه وعلته الواضحة في سياق النص، ولعل ما نقل عن بعض الأفاضل أخيرا من انتفاء العدة عن الزوجة التي يفارقها زوجها مع علمها القطعي بانتفاء الحمل يمثل الذروة في هذه الطريقة التي تعبر عن تقييد الأحكام بمقاصدها وعللها. وهي طريقة ليست معيبة في حد ذاتها، ولكن يجب أن نعترف بأنها لا تخلو عن شيء من الغموض وأسباب الحذر وذلك لكونها محاصرة بين الجمود السلبي وبين الانسياق وراء دعوات التجديد التي لا تستند الى تأصيل متين. مع إن المناداة بتجديد النظرة الى أحكام المرأة ليست بالضرورة نتيجة هزيمة نفسية تجاه الغرب بشكل مطلق كما يحلو للبعض أن يقول، بل يمكن أن تعكس تغيرا ثقافيا حقيقيا، فالقانون مرتبط بالثقافة ومرتهن بها، والثقافة شيء متغير دائما.
ولذلك نجد أن القوانين في دول العالم تتطور باستمرار بحسب ما يلحظه المشرع من تطور الحاجة الواقعية، وبحسب ما يكتشفه من نقاط الخلل في القانون من خلال المتابعة الميدانية.
وفي هذا الإطار كان لنا لقاء مع البروفيسور آن لاكور وهي أستاذ القانون في كلية الحقوق بجامعة آيوا في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تم استعراض بعض جوانب القانون الأسري الأميركي والذي مر بمراحل من التطور والتعديل خلال عقود عدة. فالطلاق كان محظورا إلا في حال الخيانة الزوجية بحسب نظرة قديمة متوارثة أدعي أنها من ثوابت المسيحية ولكن ضرورات الواقع فرضت الخروج عن ذلك التحديد، وأجاز القانون المدني الأسري أخيرا أن يحكم القاضي بالطلاق بطلب من أحد الزوجين، على شرط أن يقتنع القاضي بصعوبة التوافق بين الزوجين.
اشتمل القانون كذلك على إلزامات عملية ضرورية، فعندما تتعرض الزوجة للتهديد وتشكو أمرها الى القاضي فإنها تحصل على أمر بإبعاد الزوج المستخدم للعنف، أو تحصل على أمر قضائي بملجأ آمن توفره الدولة.
واللافت هو انه نتج عن ذلك تضاؤل عدد الرجال الذين يقتلون على أيدي زوجاتهم دفاعا عن أنفسهن! في حال ان العنف الأسري في أميركا ظاهرة مقلقة، فبناء على بعض التقارير فإن 79 من الرجال في أميركا يضربون زوجاتهم، كما إنه بلغت نسبة الطلاق هناك 60 من عدد الزيجاتن ولأن الإحصاءات أثارت قلق المهتمين هناك فقد بدأت أوساط ثقافية بفعاليات إرشادية عرفت باسم «الثورة الصامتة» والتي تحاول من خلال التوعية الأخلاقية والدينية إنقاذ الوضع الأسري والاجتماعي الذي تعصف به مخاطر كبيرة.
أعتقد أنه يمكن ادعاء أن الأسرة في البلاد الإسلامية أكثر استقرارا منها في الغرب، وهذا في حد ذاته يصلح مبررا لرفض دعوات محاكاة النموذج الغربي وتقليده بطريقة غير متأنية، ولكن هذا لا ينفي وجود مشكلات كبيرة داخل الأسر في العالم الإسلامي لكنها مشكلات مخبأة وغير مكشوفة.
الجميع يهتم بأن يظهر بمظهر مقبول اجتماعيا ولو كان ذلك على حساب الحقائق، فالإحصاءات المتعددة المصادر في الغرب تقابلها ندرة وجود إحصاءات دقيقة في بلدان العالم الإسلامي، ولذلك فمن غير الدقيق أن نجعل من الإحصاءات المعلنة في الغرب منطلقا للمقارنة بين الواقع الأسري والاجتماعي في الغرب وبينه في العالم الإسلامي، فهذا في نظري يقع ضمن سياق الاندفاع العارم نحو التقاطع الحدي مع الثقافة الغربية على أساس التمجيد المطلق للأنا والذم المطلق للآخر. وإن كان التصادم بين الثقافتين هو أمر لا مفر عنه، وذلك لاختلاف المنطلقات بينهما، ويكفي في فهم ذلك إلقاء نظرة على قرارات المؤتمرات العالمية الصادرة في شأن المرأة نظير اتفاق «القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة - السيداو CEDAW Convention on the Elimination of all Forms of Discrimination Against Women « والتي تم التوقيع عليها دوليا في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1979 وقوبلت بتحفظ من قبل بعض الدول الإسلامية وخصوصا المادة (16) منها والتي تتعلق بقوانين الزواج إذ يدعو ذلك الاتفاق بمجمله إلى المساواة المطلقة فى الحقوق بين المرأة والرجل فى جميع الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والمدنية. كما دعا الاتفاق في بعض من مواده الى تعميم استخدام موانع الحمل، وإدخال وسائل استخدامها ومعلوماتها ضمن مناهج التعليم والترويج لها!
وفى هذا الإطار يتم تدويل قضايا المرأة عبر تسييسها واستخدامها كورقة ضغط على الدول والشعوب التي تقاوم النمط الحضاري الغربي، وتتأبى عليه
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1582 - الخميس 04 يناير 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1427هـ