أُعدِمَ الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين أول أيام عيد الأضحى المبارك، ما تسبب بتكدير الخواطر وتعكير فرحة العيد، حينما استعاض الناس عن هالة المشهد النوراني برؤية الحجاج في البيت الحرام، وذلك بمشاهدة نبأ إعدام صدام. واختلطت حينئذٍ عبارات وورود التهنئة بدموع مترقرقة في المآقي وخواطر مكسورة تعاطفت مع المشهد الأخير للدكتاتور وهو سائرٌ بخطى واثقة نحو المشنقة، وهو ما ذكّرني بمقولة تنطبق على الواقع اليعربي المأسوي العصي على الفهم، وهي أن «العرب يعطفون على الجاني والجلاد وينتقدون ويوبخون ويلومون الضحية بل الضحايا ولو كانوا بمئات الآلاف»!
وفي الوقت الذي بكى فيه البعض إعدام الدكتاتور المخلوع، فرح وابتهج بعض آخر لما نال الدكتاتور من جزاء لما اقترفته يداه في حق أبناء شعبه بكل طوائفهم وأعراقهم وإثنياتهم، وأبناء جوار إسلامي هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية وآخر جوار عربي إسلامي هو الكويت، وهو ما كرس للأسف الشديد انقساما واضحا في أرض هذه الجزيرة الوادعة الصغيرة المسماة «البحرين»، وهي أشبه بالزاوية المشهدية الأكثر قابلية لإسقاطات الكربلائيات العراقية اليومية في سائر أرجائها! ولو سئلت عن رأيي بين مواقف المتأسيين الباكين على مصير صدام حسين من ناحية، والفرحين الشامتين من الناحية الأخرى، لأجبت أني أرى في الصمت والمراجعة الذاتية التاريخية أكثر من مئة مرة هما سيدا الرزانة والاتزان بين كلا الموقفين!
ومن خلال تجربتي في الوسط السني القروي الذي أعيش فيه، وكغيره من أوساط تجد لها تلاقيات وتشابكات متنوعة في واقعنا المحلي الموبوء بالتشظيات والانفصامات والسابح في بحار هائجة من «عدم الثقة» بالآخر المختلف سياسيا أو مذهبيا حتى عقيديا، فقد كان الغضب والحزن والكدر سيد الموقف، وهو ما يرجع بشكل كبير ومهيمن إلى توقيت الإعدام الذي يعتبر ومن دون شك استهانة بالغة بمشاعر جميع المسلمين في أنحاء الأرض!
وللأسف سرعان ما تأزم الوضع وازداد خطورة مع المزيد من التطورات التي شاهد من خلالها الملايين فيلم إعدام صدام عبر ما بثته الفضائيات العالمية من مقتطفات، أو المشهد كاملا بحذافيره على شبكة الإنترنت التي ربما لم تحفظ أية خصوصية حقوقية لأي كائن حي ولم تعطه أي احترام اللهم سوى إشباع الفضول وحب الاطلاع اللامتناهي.
ولعل أشد ما أثار الاستفزاز وحرك النوازع السوداء والخبيثة في ذوات وأنفس للأسف كانت قبل قليل مراعي ومروجا رحيبة برحابة الوحدة الوطنية هو السيناريو العنصري والطائفي الذي سيق من خلاله العراقي وأشقاؤه في العروبة والإسلام والإنسانية، بدءا من المحاكمة التي بدت سياسية أكثر منها قانونية في ظل فوضى واضطراب مأسوي عارم عاشه العراق بكل تلاوينه مع مجيء الاحتلال الصهيو - أميركي إلى أراضيه، و(بتدخلات إيرانية أثبتت للأسف ثأريتها، وانتهازيتها الفجة)، مضافا إليها عمليات تفجير وتفخيخ مشبوهة أوقعت آلافا مؤلفة من الضحايا لم تسلم منها المساجد والحسينيات والكنائس، في ظل غياب الدور العربي الحقيقي الممثل لحجم الجوار والحاضنة الأكثر اتساعا وحميمية للعراق المستباح. ((هذا التوقيت الغبي والسيناريو الطائفي للمحاكمة المحبوك عمدا برداء لا يستر القصد الخبيث من ورائه، كان اللاعب الأبرز في شق الصف الوطني وإثارة الفتنة لتلقيه نبأ إعدام صدام بإظهار المحاكمة أولا، كأنما المتهم فيها «عربي سني» والمدعي «شيعي» والقاضي «كردي»!))
ومع تهافت حلقات المحاكمة التي تم فيها تبديل القضاة واغتيال المحامين بلا حصانة أو حماية من الحكومة فيما يشبه التواطؤ، سرعان ما أخذ السيناريو يتصاعد في طائفيته المرسومة له مع مشهد الإعدام الذي تلقاه للأسف الشارع المتأزم بفعل فاعل تاريخي على اعتبار أن ((مجموعة من العراقيين الشيعة يقومون بإعدام عراقي سني فيما يشبه تصفية سياسية مذهبية، أشار إلى هيمنة إقصائية متسعة في العراق الجديد، بدلا من أن يكون تنفيذا إجرائيا سلسا لحكم قضائي أصدرته محكمة عراقية «وطنية» يليق بدولة جديدة تدعي أنها دولة مواطنة دستورية جامعة لكل أبنائها بمختلف انتماءاتهم العرقية والمذهبية والثقافية!
بل هو في حد ذاته إدانة عالمية كبرى للاحتلال والحكومة العراقية، وتدنية من شأنها، وضرب لأساس الشرعية التي تمثلها، واستخفاف بقدرتها على التوحيد والترغيب والصهر لجميع رعاياها في قالب وطني موحد في أبسط موقف مسرحي كهذا لم تعد له أهمية في ظل غياب السيادة الوطنية التي من دونها لا يعد للأمن والاستقرار أية قيمة.
كما هو إظهار لوجه عدمي وثأري لـ «دولة» هلامية من المفترض أنها شيدت على ركيزة مؤسساتية وتشريعية ذات وجه حضاري جديد ومغاير نحو الأفضل، كما جاء في دستورها المزعوم، ليمنح لكل فرد يكتسب مواطنتها أبسط حقوقه الإنسانية بمن فيهم المواطن العراقي صدام حسين!))
كما أن إعدام صدام من الجهة الأخرى يبدو كما لو أنه إعدام للمرحلة التاريخية التي حكم خلالها العراق بالحديد والدم، المقدرة بـ 24 عاما، والتي شهدت حوادث كبرى وأليمة خضبت ذاكرة المنطقة بالدم والرماد، ولانزال حتى الآن ندفع ثمنها أضعافا مضاعفة أشبه بالاستغلال الربوي الشيطاني.
وهو بمثابة إهانة لضحايا النظام العراقي السابق بكل ما في الكلمة من معنى؛ لكونه أعدم مع الدكتاتور الراحل جرائم كبرى في «حلبجة»، وجنوب العراق، والفلوجة وبغداد، والكويت الشقيقة وغيرها، ما أدى إلى إخفاء أدوار تحريضية وداعمة إقليمية وعالمية أكثر أهمية وخطورة بما فيها الوجه الامبريالي الأميركي القميء الذي تورّط في مسلسل الأحزان والكوارث في المنطقة. وكان صدام فيها آلة التنفيذ، وقبله الضحية الأولى المواطن العراقي المسكين هو كبش الفداء وأضحية عيد الخلاص الامبريالي النهائي من المحاكمة والمحاسبة، كما ظل لازما الاكتفاء بقضية «الدجيل» وإكسابها بعدا طائفيا بحتا، ليتم من خلالها ذر الرماد في عيون «المسئولين» العراقيين الجدد عسى أن يسبب ذلك حشوا طائفيا دسما ومؤقتا، وتزييتا محترما لمَكَنَة تصعيد ثأرية تاريخية لم تشأ أن تتوقف على مدى تاريخ العراق قديمه وحديثه، وإن كانت على رغم ذلك نهاية صدام هي الأكثر سلاما وهدوءا ووداعة بين نهايات أسلافه من الحاكمين.
لن أبالغ حينما أسلم بأن أميركا وعبر إلقائها قنبلة «إعدام صدام» الطائفية ذات التأثير التخديري؛ أرادت أن تزيد من مأزق الفرد العراقي وتغييبه وسط المتاهات الضبابية؛ لتبعده عن قضاياه المفصلية الممثلة في الاحتلال وغياب السيادة والكرامة الوطنية، ما أدى إلى نهب الثروات والأرواح الإنسانية الغالية. كما نتمنى ألا تؤدي هذه النهاية الاستفزازية لفصل المحاكمة الهزلية إلى صرف النظر عن محاكمة مسئولي الاحتلال وما اقترفوه من جرائمهم البشعة بحق الشعب العراقي وكيانيه الوطني والحضاري، التي فاقت بلغة الأرقام ما لاقاه على أيدي جلاديه من أبناء جلدته، إلى جانب محاكمة المسئولين عن جرائم التطهير العرقي والتهجير الطائفي، وجرائم فِرَق الموت التي تمارس أبشع المذابح السادية بشكل طائفي ممنهج، سواء أكان بالقتل على قارعة الطريق أم المرور ببيوت الضواحي والأحياء بيتا بيتا. وممارسات التعذيب السادية في معتقلات وزارة الداخلية العراقية، والتي تشير فيها أصابع الاتهام إلى تورط أطراف استخباراتية خارجية، وبعض المسئولين العراقيين أيضا. هذا إذا ما أراد الكيان العراقي في قالبه الحالي أن يثبت جدواه القانونية والتنظيمية في استعادة السيادة الوطنية، وتحقيق الأمن والاستقرار، لا استعراض العضلات الفئوية والطائفية والانصياع للمحتل، لتكون الحكومة العراقية نسخة مقلدة لحكومة «فيشي» في فرنسا أيام الاحتلال النازي. عسى أن يتغذى العراقي الفقير على عوائد ثروات بلاده المنهوبة، بدلا من قضم الأحقاد تلو الأحقاد التي لن تجلب سوى مزيد من الدماء والدمار.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ