لقد نشرت آخر نبضات لي الصيف الماضي في صحيفة «الوسط» في 20 يوليو/ تموز 2006، وبعدها انقطعت عن الكتابة لبعض الوقت شبهت هذا الانقطاع بالبيات الصيفي، جعل نفسي تعاف الكتابة وتبتعد عنها وذلك بعد العدوان الإسرائيلي المدمر على لبنان. وهذا البيات الصيفي يختلف كثيرا عن البيات الشتوي كما تفعل بعض الحيوانات كالثعابين، إذ كان بياتي قصيرا ومؤقتا له دواعيه ومحاذيره. وبعيدا عن بيات الثعابين، هناك الثعابين الرقطاء المغتصبة لأرض فلسطين منذ أكثر من نصف قرن، والمستمرة في غيها وعدوانها وذبحها لأهلنا فيما بقي من الديار الفلسطينية، فلا مناص من التصدي لها ومقارعتها الصاع صاعين كما فعلت المقاومة اللبنانية الباسلة. ولا يهمني إذا كانت المقاومة شيعية أو سنية، فالمهم في المقام الأول أن تكون أطيافها وطنية الهوى والقصد.
وصحيح أن حسابات حزب الله لم تكن دقيقة عند إقدامه على خطف الجنديين الإسرائيليين على أساس أن نتيجتها ستكون الإفراج عن مئات من الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين القابعين في سجون «إسرائيل» منذ سنين طويلة، إلاّ أن هذا لا ينفي أن «إسرائيل» كانت تعد لهذه الحرب منذ سنوات، وكانت النتيجة تشريد مليون لبناني ولاسيما من الأطفال والنساء، إلى جانب تدمير البنية التحتية في معظم أنحاء لبنان. إنها حرب إبادة مخطط لها، استهدفت واعترفت «إسرائيل» أنها وجدت نفسها تحارب عناصر من المقاومة الشديدة لا جيشا نظاميا في ميادين قتال واضحة.
من ناحية أخرى وردا على الهجوم الإسرائيلي على المدنيين فقد نقل حزب الله المعركة إلى المدن الفلسطينية المحتلة كحيفا وعكا، وأصابها بصواريخه وقذائفه في مقتل. وهذا الهجوم على الكيان الإسرائيلي لم تعتد عليه «إسرائيل» طوال حروبها مع الجيوش العربية النظامية، وكانت تخرج دائما منتصرة إلاّ ما ندر كما حصل في بداية حرب رمضان 1973، لذلك جاء الرد الإسرائيلي قاسيا ومدمرا لكل لبنان، بعد أن استعملت «إسرائيل» كل أنواع الأسلحة في ترسانتها الحربية بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا.
حزنت كثيرا لما حل بهذا البلد الصغير والجميل من دمار وتشريد لأهله وتساءلت كغيري من المواطنين العرب: لماذا يتحمل لبنان كل هذه التضحية ودون دول المواجهة العربية الأخرى؟ ولماذا على لبنان وحده - وكذلك الفلسطينيين - مواجهة هذا الطوفان الإسرائيلي الهمجي منذ خمسين عاما حتى يومنا هذا؟
كان الصديق فؤاد الترك سفير لبنان السابق في إيران وفرنسا ودول أخرى، دائما يردد أبياتا جميلة يغنيها محمد عبدالوهاب، تقول الأغنية: «أأنا العاشق الوحيد لتلقى.... تبعات الهوى على كتفي»
وهي من قصيدة للشاعر اللبناني الأخطل الصغير. والمشهد اللبناني المرعب يجعلني أعود إلى الوراء، إلى بداية الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي، واحتلال فلسطين. ولكي نتملى ما حدث للفلسطينيين منذ العام 1948 من مجازر وعلى رأسها مجزرة كفر قاسم إلى مجزرة دير ياسين، ومجازر أخرى لاحقة لا تعد ولا تحصى، قامت بها عصابات صهيونية إرهابية ضد الفلسطينيين وتدمير قراهم ومدنهم، وهي العصابات التي قامت على أكتافها دولة «إسرائيل» التي يعتبرها الغرب واحة الحضارة والديمقراطية في المنطقة.
وهكذا يبدو المشهد الفلسطيني الدامي في غزة والضفة الغربية في وقتنا الحاضر، وكل المتتبعين للمشهد الفلسطيني يذكرون أنه في مؤتمر مدريد للسلام في العام 1992، كان هذا المؤتمر بمبادرة من الرئيس بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر، وكاد أن ينجح لولا اللوبي اليهودي وجماعات الضغط من المحافظين الأميركان والمتشددين والداعمين لـ «إسرائيل». ويذكر الكثيرون أنه خلال جلسات المؤتمر هاجم رئيس وزراء «إسرائيل» شامير الفلسطينيين والعرب، ونعتهم بالإرهابيين، وأنهم يهدفون إلى تدمير «إسرائيل» الدولة الديمقراطية المسالمة في المنطقة! يومها تصدى له وزير الخارجية السوري فاروق الشرع وأبرز بطاقة عليها صورة شامير إذ كان عضوا في منظمة «شترن» الصهيونية التي ارتكبت المجازر في فلسطين قبل وبعد 1948. كما قامت «إسرائيل» بأعمال إرهابية وتفجيرات في مصر خلال الخمسينات، وأذكر وأنا طالب في مصر خلال تلك الحقبة أن «إسرائيل» كانت ترسل الطرود المتفجرة إلى العلماء الألمان في مصر، وسقط بعضهم ضحايا. كما بعثت مثل هذه الرسائل الملغومة إلى كثير من المسئولين الفلسطينيين، وعلى رأسهم مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت أنيس صايغ، الذي أطار طرد متفجر نصف يده. كما نذكر المتفجرة الضخمة في سيارة المناضل والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وأودت بحياته في 1972، واغتيال مسئول جهاز المخابرات الفلسطينية في بيروت علي حسن سلامة في 1977 في منطقة الحمراء بتفجير سيارته أثناء مرورها أمام سيارة متوقفة مليئة بالمتفجرات، وقامت بهذا العمل الإجرامي عميلة أوروبية بواسطة جهاز تفجير عن بعد. ومن الصعب متابعة مسلسل هذه الاغتيالات والجرائم فهي تحتاج إلى ملف كبير .
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ