لاشك في أن بعض المجتمعات الإنسانية مازالت حتى يومنا هذا تعاني من «الطائفية» و «العنصريّة»، التي من شأنها أن تميّز بين بني البشر عموما، وحتى بين أبناء المجتمع الواحد، الأمر الذي يحوّل هذه المجتمعات إلى بؤر للنزاعات والصراعات من خلال جماعات يحتقر بعضها بعضا. والواقع العربي الحالي المأزوم يعكس صورة تحمل الكثير من المفارقات والمتناقضات الصارخة على صعيد التمييز الإنساني، وخصوصا أن العالم العربي يرزح تحت تحديات ووطأة القهر والاستعباد، سواء على المستوى الداخلي لبعض هذه الشعوب التي تعاني جور أنظمة شمولية قامعة، أو على مستويات السياسات الخارجيّة، إذ تعمد «الدول النافذة» إلى فرض إملاءاتها وممارسة فوقيتها على شعوب الأرض بدعوى «الحرية» و «الديمقراطية» وأخيرا وليس آخرا «السلام».
إنّ المجتمع العربي هذا، الذي يتعرض للقهر والظلم وشتى أنواع الاستغلال والتمييز الصارخ ويواجه قوّة غاصبة كـ «إسرائيل»، وقوة مسيطرة على كل القرارات الدولية في الأمم المتحدة هي الإدارة الأميركية، مُطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بالمضي في مواجهة التحديات، وذلك عبر تكريس قضية الدفاع عن الكائن المسمى «إنسانا»، وأن يكون الإنسان نقطة محورية في خطابه المؤسس لقضاياه.
هذه العملية تتطلب قبل كلّ شيء قراءة واعية لمفهوم «الإنسان»، ونقده على مستوى الفكر المؤسس للممارسات، لأنّ المجتمع الذي لا تتجذر فيه قيم الحريّة واحترام حقوق الآخرين، لن يكون بمقدوره تجديد مفاهيمه أو تعديل قوانينه بما يتلاءم مع المتغيرات المجتمعية وتبدل السياقات التاريخية، بما يؤسس لمرتكزات تساهم في جعل المكتسبات التي تتحقق للفئات الاجتماعية المغبونة فيه القوة والثبات.
إنّ الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان داخل بعض المجتمعات بما نجده من تحيزات ثقافية وجنسية وعنصرية، علاوة على ما تمارسه بعض الدول التي تصف نفسها بـ «المتقدّمة» ضد الشعوب التي توصف بـ «المتخلّفة»، من استغلال وإفقار وإذلال... تجعل الباحث منّا يشك في أن المقصود بمفهوم «الإنسان» في وثيقة الحقوق هو الإنسان الغربي أو الأوروبي دون سواه من الناس، بل ربما يكون هذا المفهوم مقصورا على الأوروبي الغربي دون الأوروبي الشرقي في بعض الأحيان، مع العلم أن الوثيقة الدولّية لحقوق الإنسان انبثقت عبر تجربة تاريخية مريرة طويلة لصراع الإنسان مع كل أشكال التمييز والاضطهاد، وهي أفادت من دون شك من الانجازات الفكرية الإنسانية في هذا المجال، بيد أنّ هذه المثاليات لم تجد طريقا إلى أرض الواقع في غالبية الأحيان.
إذا هناك تراجع لدلالة مفهوم الإنسان عند تحليل الممارسات السياسية، بما تحمله من عنصرية وفوقية وهيمنة تجعل المصالح الاقتصادية والنفطية فوق كل اعتبار وتُفرغ المثل والمبادئ من مضمونها فتحوّلها إلى مجرّد شعارات جوفاء، وما «أبوغريب» عَنّا ببعيد.
فَثمّة مسافات شاسعة بين الصياغات الفكرية النظرية «المثالية» والتطبيقات الواقعية.
سواء كان هذا المثال «شرعة حقوق الإنسان» أو كان «خطابا إلهيّا» لاهوتيّا حث على احترام الإنسان وقرر مبادئ مثالية ذات طابع إنساني. ونحن اليوم نجد على أرض الواقع، وخصوصا في بلادنا أتونا محتدما لا يدفع ثمنه إلا الإنسان، فلا الغازي الأميركي يحترم حقوق الإنسان التي يتغنى بها، ولا حكومات بعض الشعوب العربية تحترم خيارات البشر وحقوقهم، وفي كلتا الحالين فإن الأمر يظلّ مرهونا بفاعلية عقل الإنسان المُخاطَب الذي يقوم بعملية التأويل والتفسير للنصوص التي تتسم بالمثالية، وترجمتها إلى أرض الواقع كما يتوقف الأمر على مجمل السياقات الاجتماعية والتاريخية للعصر الذي تتم فيه التفسيرات والتأويلات هذه. وهذا الفرق بين المثال والواقع موجود في كلّ الحضارات والثقافات وليس حصرا على ثقافة دون أخرى؛ فالمثاليات والقيم لها جذور في كل الثقافات غير أن عملية تأويل النصوص المتعلقة بالقيم غالبا ما تمر عبر طبقة تمنح نفسها الحق الحصري في عملية التفسير ومن ثم التطبيق.
ففي السياق التاريخ الاجتماعي، كان يميل السياسي المهيمن إلى استثمار الثقافي والفكري لصالحه عبر جوقة من المثقفين تُشكل بوقا للدفاع عن مصالحه مستخدما شتى وسائل الترغيب والترهيب لتطويعه وإدماجه في فريق السلطة، فيكتسب هذا المثقف أو المفكر أسمى الألقاب «المرجعية» و «الحجة» و «الإمام». أما من كان خارج حيز طاعة السلطة فإنه يكون «شاذّا»، «كافرا» و «زنديقا»... أمّا الإنسان العادي فقد أهمله المؤرخون لأنهم اشتغلوا في تارخ السلاطين وكان يُشار لهم بوصفهم «عوام» أو «حشويّة»...
ولعل النقطة المحورية للانطلاق اليوم نحو مفهوم «إنسان كوني» تكون بفهم «الذات» ثقافة ولغة، وفهم «الغير» من خلال ثقافته في إطار إنجازاته في سياقها الانثروبولوجي التاريخي والاجتماعي، من دون أن تُفرض عليه المعايير «التقييمية» الخاصة بالأنساق الثقافية الأخرى التي تصوّر نفسها على أنها أرقى وأسمى وأنبل... والدور ملقى على عاتق المفكرين والمثقفين من خلال تأكيد الاستقلالية ورفض جميع آليّات استبعاد «الآخر» والإقصاء الذي يمارسه «السياسي» و «الاقتصادي» و «الديني»... وذلك من أجل خلق أجواء ملائمة للبناء والتعاون والتحاور المشترك بصرف النظر عن أي انتماء أو هويّة أو جنس، وهذا لا يتنافى مع الخصوصيات الثقافية والاثنية لأن هذه الخصوصيات إذا لم تحط بالحوار والتفاهم فإنها ستتحول إلى «طائفية» و «عنصرّية» تؤدي إلى استبعاد الغير وإقصائه ونفيه وتشريده.
لعل هذا الطرح من شأنه أن يصهر الحواجز ويهدم الجُدر التي تكبّل مفهوم الإنسان وتضع هويته خلف السياج المغلقة، عندها يتحرر مفهوم الإنسان وينفتح فيستوعب كل الكائنات البشرية بغض النظر عن أي بعد آخر.
*كاتبة لبنانية
العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ