بعد مخاض صعب، جاء وليد أوروبا (اليورو)، الذي لم تمر على ولادته سوى خمس سنوات، محاطا بتكهنات وتخمينات غلبت عليها السلبية والتشاؤم، حتى من أقرب الأقربين له من داخل «الرحم» الأوروبي، ورسمت له صورة مستقبلية سوداوية شديدة التشاؤم، غير أنه برهن حديثا، وتحديدا في العام 2006، على أنه بات وليدا يافعا يتمتع بالعنفوان والقوة، بل فاق ذلك وصار أكثر جذبا في عيون المحيطين في الأسواق والدول المحيطة والنائية.
وأحاطت العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، منذ ولادتها شكوك لا حصر لها، بأنه سيظل «هزيلا ومتهالكا» في سنوات طفولته، التي رأى بعضهم أنها ستكون مديدة، وربما تطول إلى عقود، إذ إنه دخل حلبة الصراع أمام مارد عملاق (الدولار) بقي قابعا ومسيطرا على قمة العملات في العالم منذ عشرات السنين، قد تصل إلى أكثر من ستين عاما.
غير أن الوليد الأوروبي «الشرعي»، الذي لم يلق الاعتراف والاستقبال اللائقين من بلدان العالم في سنينه الأولى، سرعان ما برهن على أنه، على رغم حداثة عهده، بات يافعا وقادرا على الصمود، بل والمنافسة أمام العملاق القابع على الضفة الأخرى من الأطلسي، فتمكن في غضون أعوام قليلة لم تتجاوز أصابع اليد من ترسيخ مكانته كعملة «عالمية» ينجذب إليها الخاص والعام والرسمي، بأشكال وصور مختلفة. كما أنه، أي «اليورو»، لم يلبث أن رسخ مكانته بين العملات العالمية العتيقة التي لها باع طويل في السياسة والاقتصاد والأسواق.
وكان 2006، «عام النضج» لليورو الذي ساهم بأدائه ومعاونيه من القطاعات الأوروبية المختلفة في منطقة اليورو التي «تبنت» الوليد، فلم يلبث أن قفز عاليا ليناطح بقية العملات الكبرى، ليثبت لهم عنفوانه القادم المثير لقلق الكثيرين، فارتفع سعر صرفه أمام الدولار الأميركي بنسبة قاربت 14 في المئة على مدار العام بكامله، محققا 1.36 دولار أعلى مستوياته منذ 20 شهرا، ويبعد قرابة ثلاثة أو أربع سنتات عن مستواه القياسي التاريخي الذي بلغه في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2004.
وأثبتت العملة الأوروبية الموحدة أنها عادت بقوة إلى ميدان الصراع بعد أدائها الهزيل في السنوات الأولى التي قادته إلى تسجيل أدنى مستوياته في 2000 حين بلغ 82 سنتا. ويعلق محللون على ذلك، ومن بينهم المحلل المالي ديفيد جونز بمؤسسة «سي إم سي» المالية، بقولهم «لدى بدايته (اليورو)، كان الجميع متشككين وحذرين للغاية، ورسموا صورة سلبية له، وهو ما تحقق فعلا في أداء السنوات الأولى». غير أن جونز استدرك قائلا «إلا أن الصورة السلبية الحقيقية باتت في عهدة التاريخ حاليا، فاليورو ينظر إليه على أنه عملة عالمية في الوقت الراهن».
ولم يأت احتلال اليورو المرتبة الثانية بين الاحتياطيات العالمية من العملات الأجنبية من فراغ، فعدد من الدول، ولاسيما ذات الوزن الثقيل في عالمنا اليوم، حولت أنظارها لليورو، وفي مقدمها الصين التي أعلن مصرفها المركزي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أنه يدرس جديا فكرة تحويل جزء من احتياطياته، التي تخطت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تريليون دولار (أي نحو ربع الاحتياطيات العالمية من العملات)، إلى عملات أخرى بدلا من الدولار.
وفي هذا الإطار، خرج على لسان محافظ المصرف المركزي الصيني زو زياوشوان تصريح له دلالة مهمة أثرت على أسواق العملات كثيرا حين قال إن مصرفه «يدرس عددا من الأدوات لتنويع احتياطياته الأجنبية».
ويرى الاقتصادي الأوروبي آرشر «أن دولا أخرى كشفت عن نيتها في تبني نهج مماثل»، ويسوق على ذلك أمثلة بقوله إن هناك «شواهد مهمة» بأن مصارف مركزية أخرى لديها الرغبة في المضي قدما في خطوة تنويع احتياطياتها مثل قطر والسويد وروسيا، وحديثا دولة الإمارات العربية المتحدة التي أعلنت في الأشهر الأخيرة، أنها تدرس ما إذا كانت ستقوم، على المدى القريب، بتنويع احتياطياتها الدولارية، أو أنها ستقدم على تلك الخطوة على مدى أطول.
غير أن الإمارات لم تنتظر طويلا، إذ فاجأت أوساط المال العالمية قبل أيام قليلة من انقضاء العام 2006، بإعلان محافظ مصرفها المركزي سلطان بن ناصر السويدي أنه في ضوء ما وصفه بـ «وهن الدولار»، فإن دولته ستسعى إلى تحويل 8 في المئة من احتياطيات العملات الأجنبية لديها إلى اليورو. ويشير السويدي إلى أن 98 في المئة من احتياطيات الإمارات، البالغة 25 مليار دولار، يحتفظ بها في صورة دولارية، وهي نسبة ربما تخفض إلى 90 في المئة في غضون ستة أو تسعة أشهر، حال موافقة مديري المصرف المركزي على خطة التحول المتوقعة.
ووضع تعاقب نوايا وخطط التنويع للاحتياطيات، ولاسيما في أعقاب الإعلان الإماراتي، مسألة تفوق وهيمنة الدولار على المحك، وباتت محل تشكك من وجهة نظر البروفيسور بجامعة ميريلاند بيتر موريتشي، الذي أكد أن الدولار، أثناء ترنحه حاليا، قد يتعرض لمعاناة أكبر بسبب اتساع فجوة العجز التجاري الأميركي وتنامي الرغبة في تنويع الاحتياطيات.
ويعتقد موريتشي أن «اليورو هو المرشح الأول لعملية التنويع»، غير أنه حاول التخفيف من حدة المشكلات التي ربما يعانيها الدولار مستقبلا، بالحديث عن المعوقات التي تعترض طريق اليورو لاحتلال مكانة أكبر في سوق العملات، وخصوصا أن شريحة من المستهلكين مازالت متبرمة ومتمردة بشأن استخدام اليورو. فهناك، بحسب استطلاع رأي لمركز جالوب، نحو 41 في المئة من شعوب منطقة اليورو الـ 12 يقولون إنهم لايزالون يواجهون مصاعب في استخدامه، فيما يلجأ كثيرون إلى حساب مشترياتهم بالعملات الأوربية القديمة.
كما أن فريقا من المراقبين يرون أن العملة الأوروبية الموحدة لم تسهم في تضييق فجوة النمو بين أوروبا - التي تمثل نسبة واحد أو اثنين في المئة نموا هائلا بالنسبة لها - وغيرها من الاقتصادات الأكثر حيوية سواء الولايات المتحدة أو آسيا. وفي المقابل، يقول بعضهم إن الشركات والمؤسسات والحكومات باتت تجني أموالا أكثر من التعامل باليورو ولاسيما عبر الحدود، إذ لم يعد مستثمرو الدول يواجهون المخاطر نفسها بتآكل قيم ما يملكونه من أسهم وسندات بسبب تقلبات العملة، كما أن مسافري أوروبا أصبحوا أكثر سلاسة في التعامل مع اليورو، وليسوا بحاجة إلى تضييع وقتهم في استبدال العملات الأجنبية في منافذ المطارات، أو العودة إلى بلادهم وجيوبهم مليئة بأنواع متفرقة من العملات الأجنبية.
ويلتقط موريتشي بعدا آخر للمسألة، لافتا إلى أن «المشكلات التجارية الأوروبية مع الصين، والعجوزات الملحوظة بينهما، مرشحة للتزايد والاتساع في السنوات المقبلة، وهو ما يثير شكوكا بشأن قدرة اليورو على التعافي نسبيا أمام الدولار، على المدى الطويل».
ويستطرد كلامه بأن الحديث عن «شجار اليورو وتفوقه على الدولار، أو العكس، من الأمور الخلافية مثلما هو الحال عند الحديث عن أي العملتين سيكون أقوى في غضون العامين أو السنوات الخمس المقبلة».
غير أن موريتشي يرى في نهاية الأمر أن الخيار أصبح «أمرا يصعب تحديده»، فيما يذهب محللون آخرون إلى أن خريطة العملات في العالم باتت أكثر تعقيدا، وطرأت عليها تحولات مهمة وجوهرية، ولاسيما بعد أن برهن الوليد الأوروبي، بعد بلوغه الخامسة من عمره، أنه صار «يافعا وفتيا» على رغم حداثة عهده، كما أنه حاليا يتمتع بجاذبية لم تلعب برؤوس المستثمرين وأصحاب الشركات والمؤسسات الكبرى فحسب، بل بمسئولي مصارف مركزية في بلدان عدة أيضا.
العدد 1580 - الثلثاء 02 يناير 2007م الموافق 12 ذي الحجة 1427هـ