العدد 1579 - الإثنين 01 يناير 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1427هـ

تأجيل المطابقة: تداخل المواقف وانقسام الموقع السياسي

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تكمن معضلة الموالاة في أنها موقف سياسي ذو مردود اقتصادي نفعي طويل الأجل، فالموالاة لا تعني المشاركة في الحكم والسلطة، وما ينبغي لها أن تكون كذلك، بل هي، كما أوضحنا في مقال سابق، حال من المديونية المتبادلة طويلة الأجل. فالموالي يمنح الحاكم ولاءه وتأييده مقابل مكاسب ومنافع وامتيازات يتحصّل عليها من الحاكم، وقد يكون مجرد القرب من الحاكم مكسبا من أثمن هذه المكاسب التي يتنافس عليها الموالون.

والقرب لا يعني المشاركة في الحكم، وإلاّ انقلب الحال وصار الموالون جزءا من السلطة، الأمر الذي يعني البحث عن موالين جدد، ولو كتب لهؤلاء الأخيرين أن يندمجوا في السلطة، فإن سلسلة البحث عن موالين جدد ستستمر بلا توقف! إلاّ أن الموالاة لا توجد إلاّ بعد وجود موقع سياسي موحّد يتمتع بثبات نسبي يؤهله للدخول كطرف في معادلة الموالاة: الولاء مقابل الامتيازات. ومع هذا فإن ظهور هذه المعادلة لا يعني اكتمال المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي. وقد أوضحنا، في مقال الأسبوع الماضي أن المطابقة بين الطائفة (سنة/ شيعة) والموقف السياسي (موالاة/ معارضة) مطابقة مغلوطة تاريخيا، لأن هذا التاريخ ينطوي على مواقف سياسية متداخلة، إذ كان هناك شيعة منقسمون بين المعارضة والموالاة، وسنة منقسمون بين المعارضة (بل المواجهة الحربية) والموالاة (التحالف). بمعنى أن الشروط الأولية لنشوء معادلة الموالاة تتمثل في وجود موقع سياسي مستقر وموحد، ومواقف سياسية ثابتة وموحّدة، الأمر الذي يعني أن المعادلة مهدّدة بالنسف في حال تعرّض الموقع السياسي إلى الانقسام، والمواقف السياسية إلى التداخل.

وأتصوّر أن تاريخ البحرين الحديث كان محكوما بهذين التهديدين: انقسام الموقع السياسي وتداخل المواقف السياسية، وإلى هذين التهديدين الحاكمين يرجع الفضل في تأجيل نشوء مطابقة مكتملة بين الطائفة والموقف السياسي. وسأدلل على هذا التصور بدراسة المواقف العامة من إصلاحات العام 1923، بحكم أن هذا العام عام مفصلي في تاريخ بناء الدولة الحديثة في البحرين.

وبحسب محمد علي التاجر فإن السياسة في البحرين كانت تسير، في بداية أمرها، «سيرا مرنا بطيئا لم تحدث ما يوجب رعبا عند أهل البلاد». واستمر الوضع بهذه الحال إلى أن دخل الإنجليز، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، على خط الصراع، وتدخّلوا في إدارة الشأن السياسي المحلي بعد أن كانوا يكتفون بتفردهم بتجارة البلاد وسياستها الخارجية. وفي العشرينات، جرى أول إصلاح إداري في البلاد، وجرى معه فرز واضح لمواقف الأهالي السياسية بين ثلاثة مواقع سياسية مهمة: الإنجليز، وحاكم البلاد الشيخ عيسى بن علي، وابنه وولي عهده الشيخ حمد بن عيسى. ويذهب التاجر إلى أن المعتمد البريطاني الميجر ديلي، هو الذي اختط «خطة التفريق عملا بسياسة القائل (فرق تسد)» (ص 153). ويذكر التاجر أنه تألف «حزب يناصر آل خليفة ويعمل لإعادة الشيخ عيسى بن علي» في العام 1923، وهو يقصد «المؤتمر الوطني البحراني» الذي تألف من كبار التجار وزعماء القوى القبلية السنية، وتزعمه عبدالوهاب الزياني الذي نفي إلى الهند مع صديقه أحمد بن لاحج. وستكون لنا عودة لتصحيح هذا الاستنتاج المتسرع من قبل التاجر.

وتذكر مي آل خليفة أن فبراير/ شباط 1922 كان شهر الانقسامات الطائفية وظهور المسميات الطائفية في البحرين (تشارلز بلجريف: السيرة والمذكرات، ص41). وبظهور هذه الانقسامات انعدمت الثقة بين الطرفين السني والشيعي، وصار كل طرف يضمر العداوة للطرف الآخر، ويبادر بالشك في أي تحرك يقوم به. وقد وصف شاهد عيان هذه الحال في أوائل العشرينات بهذه الحكاية: «مرّ بي سيد يتميز بعمامة خضراء، فبصق أحد أصدقاء صاحب الحانوت على الأرض وتمتم بكلام ما، وعندما سألته عما قاله، أجاب: (...) إنك لا تستطيع أن تثق أبدا بأولئك الشيعة، لأن لهم وجهين» (البحرين: مشكلات التغيير الاجتماعي والسياسي، ص 287). وفي المقابل كان الشيعة لا يثقون بالسنة وغير مستعدين للتعاون معهم في أي مواقف مشتركة (ص 325).

وفي هذه الأجواء المشحونة بالعداء وانعدام الثقة بين الجميع ظهرت أول رغبة انجليزية بضرورة وجود جماعات الموالاة تؤيد الإنجليز بعد أن كتب الكابتن براي في تقريره في العام 1919 أنه في البحرين يتنامى «شعور عميق بالعداء تجاهنا، وذلك لأسباب دينية واقتصادية وشخصية ولأمور تتعلق بالحرب»، ويقترح هذا الكابتن لمعالجة هذا الوضع أن يجري «تأسيس وتشجيع حزب يؤيد بريطانيا» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص 300).

إلا أن ظهور هذه الانقسامات والمسميات الطائفية وانعدام الثقة المتبادل، كل هذا لم يؤسس لمطابقة بين الطائفة والموقف السياسي. ويعود هذا، فيما أتصور، إلى سببين: الأول هو تداخل المواقف السياسية (المعارضة والموالاة) تجاه الحكم. وفي هذا الشأن يذكر مهدي عبدالله التاجر أن إصلاحات العام 1923 حفّزت على ظهور حركة سنية موالية تدعم الشيخ عيسى بن علي، وتعارض الإصلاحات الإدارية التي جاءت بالشيخ حمد بن عيسى إلى الحكم الذي تسلم إدارته باسم «نائب حكومة البحرين»، فيما كان الشيعة البحارنة - ولكونهم المستفيدين من الإصلاحات بحكم أنها بادرة أولى للمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات - موالين للشيخ حمد بن عيسى ويدعمون إدارته الجديدة. وفي 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1923 سلّم زعماء البحارنة آنذاك التماسا إلى المقيم السياسي البريطاني موقعا من 328 شخصا، دافعوا فيه عن الإصلاحات الإدارية وعبّروا عن ارتياحهم من إدارة الشيخ حمد بن عيسى (Britain, The Shaikh and The Administration, p.60). وعلى هذا كان السنة والشيعة معارضين من جهة، وموالين من جهة أخرى. والتدقيق في هذه الفترة كفيل بأن يكشف لنا حقيقة أخرى وهي أن التداخل في المواقف السياسية لم يكن موزعا بقسمة مضبوطة بين السنة والشيعة، بدليل أن أهم ناشط سياسي سني في تلك الفترة وهو عبدالوهاب الزياني كان يستحسن إصلاحات العام 1923، إلاّ أنه كان عارضها لكونها تمثّل - من منظوره - تدخلا مباشرا من الإنجليز في الشئون الداخلية للبلاد، الأمر الذي يجعل منها عقبة أمام السيادة الوطنية مستقبلا (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص315، وص 323).

يذكر أن واحدا من أوائل مثقفي البحرين المستنيرين، وأكاد أقول إنه أعظمهم نبوغا وبصيرة وهو ناصر بن جوهر الخيري، كان من أهم الداعمين لإصلاحات 1923، وهو مثقف سني عمل مع الأمير الشاعر محمد بن عيسى آل خليفة، ثم نقله الميجر ديلي للعمل بدار الحكومة. وله في شرح موقفه من الإصلاحات كلام لا يصدر إلاّ عن مثقف حر ومستنير، وربما كان موقفه هذا هو المحرك الخفي لكل محاولات التغييب والتهميش التي مني بها هذا النموذج النادر من مثقفي البحرين الأوائل، حتى من قبل من تصدى لكتابة سيرته، وأقصد بذلك المرحوم مبارك الخاطر في كتابه «ناصر الخيري الأديب الكاتب، 1982»، وتحديدا حين حكم على «علميته» بأنها «متواضعة بالنسبة لعلمية أعلام آخرين» (ص 118). في حين كان يكفي أن نقرأ العبارة التي سننقلها بعد قليل لنعرف أن ناصر الخيري كان يتمتع ببصيرة نافذة قلّ أن تمتع بها أحد من هؤلاء «الأعلام»، فهو - حقا - مثقف سابق لعصره.

ينطلق ناصر الخيري في شرح موقفه من إصلاحات 1923 من مسلمة أساسية تتعلق بتعيين وظيفة الحاكم، فيقول: «إن الحاكم مهما عظم شأنه لا يحق له أن يتصرّف في شئون الناس إلاّ بالقدر الذي تخوّله إياه الشرائع والقوانين الوضعية والسماوية، لا أن يتصرّف فيهم تصرّف المالك في مماليكه العاجزين. فوظيفة الحاكم هي حياطة الناس وضمان مصالحهم وتأمينهم على أرواحهم وأموالهم وشرفهم وأعراضهم. فإذا قصّر ذلك الحاكم في شيء من هذه الأمور وجب على الناس نبذه (...)، إن الحاكم الذي لا يأمن الرعية تحت كنفه أفرادا وجماعة على أموالهم وأرواحهم وشرفهم وأعراضهم، ولا يثقون بحياطته لهم بجميع أسباب الحيطة والحماية، لا يحق له عليهم الطاعة، ولا يحق له الحكم عليهم أبدا، بل الواجب يقضي بالهجرة عن البلاد التي يفقد فيها المرء الأمان على نفسه وماله وشرفه من بطش الحكام المستبدين» (قلائد النحرين، ص 403).

والمعنى من كل هذا أن الشيعة كانوا موالين من جهة ومعارضين من جهة، وكذلك كان السنة موالين من جهة ومعارضين من جهة. أي أن الموالاة والمعارضة كانت متداخلة داخل الطائفة الواحدة، ما يعني أن المطابقة المزعومة لم يكن لها وجود حتى هذه اللحظة. بل ما كان بالإمكان نشوء هكذا مطابقة لكون الموقع السياسي الثابت والموحّد قد انقسم على نفسه إلى ثلاثة مواقع: الإنجليز، حاكم البلاد، نائب الحاكم.

وأما السبب الثاني الذي أجّل نشوء مطابقة بين الطائفة والموقف السياسي في العشرينات فيرجع إلى صعود قوى وتحركات متفرقة طلابية وعمالية وطبقية متنوعة، فوّتت على المطابقة الطائفية فرصة الحضور بقوة بعد أن دخل الإنجليز على خط الصراع الداخلي وتحريك الانقسامات الطائفية. وحول هذه التحركات سيدور مقالنا للأسبوع المقبل إن شاء الله.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1579 - الإثنين 01 يناير 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً