بعد معركة الانتخابات النيابية التي دارت رحاها في نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي 2006، بدأت تلوح في الأفق ملامح معركة أخرى أكثر شراسة، تهدف إلى تقسيم الوطن وفق المحاصصة الطائفية المنطلقة من نتائج المعركة الأولى، في الكثير من مواقع العمل المحسوبة على القطاع الحكومي وحتى تلك المحسوبة على القطاع الخاص، وبات أبطال هذا النوع من الفرز الطائفي الكريه اللون والرائحة يتبجحون بخطواتهم ويباهون بالنتائج الباهرة التي يحققونها.
وإذا كانت معظم الدوائر الرسمية قد تشبعت بالموظفين وصار التوظيف في معظمها وفق قائمة انتظار طويلة، يحدد أولوياتها وحجم استيعابها، مقدار ما يتم افتتاحه من أقسام وإدارات جديدة، أو ارتباط ذلك بأعداد الموظفين المتقاعدين، فإن هناك الكثير من المؤسسات الحكومية التي يتم افتتاحها والتي يمكن أن توضع لها من الأسس والمعايير في التوظيف والترقيات، ما يعزز روح المواطنة بعيدا عن الفرز الطائفي والمحسوبيات، ومن دون شك فإن ذلك سيكون محل اختبار للتوجهات الرسمية التي ستخضع للمساءلة والمراقبة من قبل مجلس النواب والجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المختلفة.
لكن الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب، والذي يتم بعيدا عن الأعين هو ما يحدث في القطاع الخاص، فهذا القطاع مهيأ أكثر من القطاع الحكومي لاستيعاب المواطنين الذين يدخلون إلى سوق العمل للمرة الأولى، وبأعداد كبيرة تتناسب مع حجم المشروعات الاستثمارية العملاقة التي بدأت بشائرها وعماراتها الشاهقة تخترق صمت سماء البلاد بشكل لافت، وخصوصا في شمال العاصمة المنامة. ففي كثير من المؤسسات والشركات المالية والاستثمارية وحتى تلك العاملة في مجال التأمين والخدمات الأخرى، بدأت تنتشر فيها روح الطائفية بشكل لم يسبق له مثيل، حتى باتت التعليمات بحصر التوظيف في حدود وأطر طائفية، تصدر بكل وقاحة ومن دون أي رادع أخلاقي.
التعليمات واضحة والتبرير الجاهز الذي بدأت تروج له بعض القيادات، يعتمد على ما أفرزته الانتخابات النيابية ومفاده أن هناك فئة تريد أن تسيطر على المجلس النيابي، وتسعى إلى إحداث خلل في التركيبة السكانية، وفي الأطر السياسية المتصلة بقيادة البلاد، لذلك فإن المطلوب هو محاربة هذه الفئة ومحاصرتها بعيدا عن مواقع المسئولية حتى لا تستطيع تنفيذ مخططاتها المشبوهة! ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى سوق الكثير من التهم الباطلة حول ارتباطات خارجية، وتلقي أوامر من دول مجاورة، ضمن مخطّط يستهدف أمن المنطقة واستقرارها الاجتماعي وعروبتها أيضا.
وفق هذه النظرية البائسة يتم ضرب العلاقات الاجتماعية، وسنوات طويلة من العيش المشترك والسلم والنسيج الاجتماعي المتماسك الذي تكون منه مجتمع البحرين، والغريب أن لا أحد يتصدى لهذا المرض المستشري في بعض المؤسسات الخاصة، وكأن ذلك يحدث في بلاد الواق واق!
وتمضي النظرية المشئومة في بث سمومها وتأثيراتها في كل الحقول، مستندة إلى عقلية مريضة تسعى إلى إعادة تقسيم الوطن بحسب فئات وطبقات اجتماعية جديدة تعتمد على قياس درجة الولاء في دم كل مواطن يولد أو يعيش فوق هذه الأرض. ولسنا نعرف، هل تباشر بعض الجهات الدعوة إلى إخضاع الناس عموما إلى فحص الدم بشكل إجباري، أم أن رواد هذه النظرية سيكتفون بالنظر إلى الانتماء المذهبي والقبلي والعرقي، وبناء عليه سيصنّفون المواطنين إلى درجات؟
لقد سمعنا جميعا عن البطاقة الذكية التي أصبح مشروعها جاهزا، ولا ندري هل سيتم تزويد هذه البطاقة بمعلومات خاصة عن نسبة ولاء كل مواطن وعرقه واصله وفصله، حتى لا تتعب الإدارات والهيئات الطائفية في القطاعين العام والخاص في التعرف على هوية المواطنين، وبالتالي تحدّد كيفية التعامل معهم، وخصوصا في التوظيف.
لقد سمعنا عن طائفة المنبوذين في الهند، والتي تعيش مستويات دونية في كثير من مظاهر الحياة المعيشية، ولا يسمح للمنتمين لها بالعمل إلاّ في دوائر معينة، وبمرتبات ذات سقف محدد، حتى وإن تغلب أحد أفرادها على ظروفه وقهرها من خلال الدراسة والمثابرة وحصل على أعلى الشهادات الجامعية.
ويبدو أن هناك في البحرين من يحاول الاستفادة من هذا النموذج، فيدعو إلى تعزيز الفرص في التوظيف والتعليم والسكن والكثير من الاحتياجات المعيشية والحياتية الأخرى لطائفة معينة، والتضييق على الطائفة الأخرى، حتى يصبح التمييز بحكم الأمر الواقع، وبالتالي نجد أنفسنا في وطن تعشش فيه الطائفية وينخر في قواعده وهياكله الفرز المذهبي والعرقي.
ولا يقف الأمر عند ذلك، فهذه النغمة منتشرة حتى بين المثقفين في الندوات والنقاشات التي يحضرونها، وخصوصا في أوساط عدد من شباب المحرق التي كانت على الدوام مثالا للوحدة الوطنية، لكن الأصوات النشاز اليوم تطفو على السطح كالفطر... فمرة تحذر من الولاء لإيران، وأخرى تخوّف من نقل النموذج العراقي، وفي كثير من الأحيان تستخدم مفردات الطائفيين في لبنان الذين يريدون أن يقتلوا روح الحوار والمقاومة هناك من أجل تأسيس كانتونات طائفية مقيتة.
البحرين كانت ولاتزال بخير، وأهلها يعرفون معنى الأخوة والعيش المشترك، ويعرفون أن من يبث هذا النوع من الدعوات هو العدو الحقيقي للبلاد ووحدتها، ومن دون شك سيقف الجميع ضد من يسعى إلى تخريب العلاقات الاجتماعية المتميزة بين أبناء البحرين، وسيفتحون النار على كل من يقف وراء تنفيذ هذه الهجمة المنظمة الهادفة إلى تقسيم المجتمع البحريني إلى معسكرين، معسكر موالٍ للبلاد، وآخر معادٍ لها!
إن من الشائن والمعيب أن يتحدث البعض عن وجود موالاة ومعارضة وكأنها أم المشكلات، فهذه الظاهرة موجودة في كل بلاد العالم، وقد أصبح من المتعارف أن المعارضة في معظم الدول الديمقراطية تشكل مكونا أساسيا من مكونات النظام، لذلك فإن ما يحدث في البحرين، وخصوصا على المستوى المعيشي والاجتماعي، هو محاولة مشبوهة لتعميم نتائج الانتخابات الأخيرة على جميع أوجه الحياة، وتصوير الأمر وكأن كل من صوت للمعارضة هو في الأصل غير وطني ومعاد لاستقرار هذه البلاد، وأن كل من صوت ضد المعارضة هو وطني حتى النخاع.
إن الأمر جد خطير ولابد من دق ناقوس الخطر للتنبيه إلى أن هذه النظريات التي يتم الترويج لها هي نظريات بائسة ومدمرة في الوقت نفسه، فنحن نريد أن يسود السلم الاجتماعي بين أبناء هذه البلاد، نريد أن يكون الجميع مواطنين يتمتعون بالحقوق ذاتها ويتحملون المسئوليات ذاتها لبناء الوطن والحفاظ على أمنه وأمانه.
إنها دعوة صادقة لكل صاحب مسئولية ومركز قيادي في أي مؤسسة رسمية أو خاصة، لأن يعيد حساباته وأن يوفق أوضاعه وانحيازه في التعامل مع الناس من منطلق المصلحة العامة للوطن، على اعتبار أن كل أبناء الوطن مواطنون محبون لوطنهم ومخلصون له، على ألا توجه التهم والتوجس إلى أي أحد لأنه ينتمي لهذه الطائفة أو ذلك العرق فقط.
البحرين دولة القانون والمؤسسات، وهي الدولة التي نريدها أن تتعامل وفق هذه المفاهيم والمعايير الدولية المتعارف عليها، وليس وفق الأهواء والنظريات المشبوهة التي لا تضمر إلاّ الشر والكراهية والحقد لهذا المجتمع.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1579 - الإثنين 01 يناير 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1427هـ