يعيش اللبنانيون حالات ترقب وحذر من الأيام المقبلة. هذه الأجواء القلقة دأب اللبنانيون على انتظارها سنويا وخصوصا عشية رأس السنة الميلادية حيث تكثر التوقعات الفلكية والتخمينات التي تستند إلى حركات النجوم والكواكب. ففي نهاية السنة تفتح المحطات الفضائية قنواتها لنجوم فلكية تبدأ بتبشير اللبنانيين والعرب والدول الإقليمية والعالمية بحوادث ستأتي لا محالة في الأسابيع والشهور المقبلة.
هذا النوع من التفكير المستقبلي تحول إلى «فولكلور» شعبي نظرا إلى تكاثر عدد المنجمين والعارفين بالغيب. وبسبب الظروف الاستثنائية التي يمر بها هذا البلد الصغير والجميل بدأ يتحول «فولكلور» التوقع إلى نوع من القناعات الثابتة عند جهات لا حصر لها. فهناك الكثير من القطاعات المتعلمة والحداثية أخذت تميل إلى تصديق أخبار النجوم والكواكب. وهناك من يذهب إلى مسافة أبعد من التصديق. وهناك من يرتب حياته ويعيد تنظيمها لتتناسب مع تلك التوقعات.
هذه الحال تعكس ضمنا ذاك القلق الذي يسيطر على شعب قدر له أن يعيش دائما في ظروف استثنائية ولاعتبارات ليس مسئولا عنها ولحسابات تتجاوز إمكاناته ومصالحه. هذا هو واقع لبنان السياسي منذ تكوينه كدولة في العام 1920. إلا أن التجاذبات التي أخذت تطارده ازدادت منذ دخلت المنطقة العربية/ الإسلامية في أطوار من الانقلابات والتحالفات والاهتزازات والاضطرابات والاستقطابات. وبسبب تركيب لبنان الطائفي والمذهبي والمناطقي تشكلت في داخله حركات سياسية تعكس تلك الفضاءات الإقليمية والدولية. فالقوى السياسية المحلية ليست لبنانية بالمعنى الوطني. فهي لبنانية في جانب وغير لبنانية في جوانب أخرى. وأدى هذا الاختلاط إلى تشكيل «أيديولوجيات» تجمع التعارضات التي تتآلف أحيانا وتتخاصم أحيانا أخرى. وهذا التذبذب في العلاقات الأهلية اللبنانية يمكن ملاحظته من خلال رصد حركة التحالفات التي تجمع التعارضات من جهة، ولكنها ليست بالضرورة متوافقة على كل النقاط من جهة أخرى. وبسبب هذا التلوين الأيديولوجي يمكن فهم أسباب الانقلابات داخل التجمعات السياسية. فاليمين يتجه تارة إلى اليسار واليسار يتجه طورا إلى اليمين. واليوم يكون هذا في صف واحد مع ذاك وفي اليوم التالي ينفصل هذا عن ذاك وينتقل فجأة إلى الصف المضاد.
كل هذا يمكن متابعة تفصيلاته من خريطة الطريق السياسية اللبنانية التي طرأت عليها متغيرات كثيرة وأدخلت قوى معينة في شبكة تحالفات وأخرجت قوى أخرى من الشبكة. وأي مقارنة لخريطة مواقع القوى السياسية التي كانت موجودة في العام 1975 (بداية الحرب الأهلية) لا نجد لها مكانها الواضح في مواقع القوى التي أعادت ترتيب علاقاتها في العام 2006. فبعد أكثر من ثلاثين عاما على الحروب وما رافقها من استقرار نسبي نجد أن من كان في موقع «الحركة الوطنية» أصبح في مكان آخر أقرب إلى «الجبهة اللبنانية». والعكس صحيح.
خلال هذه الفترة حصلت الكثير من التطورات أحدثت سلسلة متغيرات إقليمية انعكست فورا على خريطة التحالفات اللبنانية. وهذا المتحول الإقليمي الجغرافي/ السياسي يعتبر من تلك العلامات التي تؤثر على تبدل المواقع وانتقال رموزها من مكان إلى آخر. فالقوى المحلية في النهاية ليست لبنانية بالكامل وإنما تعكس تلك التجاذبات التي تهب عواصفها على المنطقة.
في العام 1975 مثلا لم تكن الثورة الإسلامية في إيران قد اندلعت ولذلك كانت طهران خارج الصورة «الفولكلورية» اللبنانية. آنذاك كان الاتحاد السوفياتي يلعب دوره العالمي في مواجهة الولايات المتحدة ولذلك كان للأحزاب العلمانية واليسارية والاشتراكية موقعها المميز في تشكيلة الهيئات السياسية للحركة الوطنية. إضافة إلى دول المعسكر الاشتراكي لعبت الدول العربية التي تحمل أيديولوجيات رفضية وقومية دورها في تشكيل مواقع نفوذ لها في الطوائف اللبنانية. كذلك لعبت الثورة الفلسطينية على تنوع فصائلها سلسلة أدوار متفاوتة في التأثير على المناخات السياسية المحلية سواء بالتحالفات أو التمويل. آنذاك كانت «فتح» هي كبرى الفصائل وتملك من الإمكانات ما ساعدها على تكوين تيار من الأنصار اللبنانيين وهذا ما جعل قائد الثورة ياسر عرفات يلعب ذاك الدور الخاص في تحديد الاتجاهات السياسية المحلية بالتعاون مع قوى وأحزاب الحركة الوطنية.
ظهور حماس وحزب الله
في تلك الفترة (السبعينات ومطلع الثمانينات) لم تكن حركة «حماس» موجودة كذلك حزب الله. فحماس ستظهر عمليا على سطح السياسة كمنافس لفتح بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت واندلاع الانتفاضة الأولى. كذلك سيظهر حزب الله على الشاشة السياسية بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 وما تلاه من عمليات مقاومة بدأت مشتركة وانتهت أخيرا بقيادة الحزب الذي نجح في طرد الاحتلال في العام 2000.
منذ نهاية الثمانينات أخذت تظهر على الشاشة الإقليمية قوى جديدة فاعلة في تأثيرها على التحالفات اللبنانية. فحزب الله شكل ظاهرة نوعية شدت انتباه وتأييد مختلف الشرائح السياسية من طوائف ومذاهب مختلفة. كذلك ظهرت «حماس» كقوة جاذبة في الساحة الفلسطينية - اللبنانية تشكلت حولها نواة سياسية منافسة لحركة «فتح».
استمر هذا الوضع يسير في طريق المتغيرات بحذر شديد إلى أن دخلت المنطقة (والعالم) في إطار انقلابي ترك تأثيره المباشر على التوجهات الحزبية اللبنانية. فالعراق مثلا خرج من المعادلة بعد حرب الخليج الثانية وهو كان يعتبر لاعبا مهما في الساحة اللبنانية نظرا إلى منافسته الدور السوري، إذ كان صدام حسين على علاقة مميزة مع الجنرال ميشال عون وأسهم في تسليحه وتمويله لمحاربة الوجود العسكري السوري في لبنان. ليبيا أيضا تراجع دورها في التأثير السياسي على لبنان بعد إخفاء الإمام موسى الصدر واكتفت بلعب دور الممول لبعض الاتجاهات الناصرية والقومية. والأهم هو انهيار المعسكر الاشتراكي وخروج الاتحاد السوفياتي من المعادلة الدولية. وهذا أيضا انعكس على الساحتين اللبنانية والفلسطينية حين تراجع دور الأحزاب والفصائل اليسارية وبدأت تتفكك أو تنقلب على بعضها تاركة الساحة للقوى الإسلامية التي ظهرت بقوة في المنظومتين السياسيتين: حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان.
في التسعينات أعادت المتغيرات الدولية والعربية والإقليمية تشكيل التحالفات السياسية اللبنانية. فإيران التي خرجت من حرب طويلة مع العراق أخذت تمارس نفوذها الإقليمي القوي في لبنان من خلال حزب الله وشبكة علاقاتها السياسية مع سورية وحركة حماس الفلسطينية. وشكل هذا الدور موقعه الخاص في التأثير على شبكة العلاقات السياسية والحزبية وأعاد خلط الأوراق وفق تسلسل هرمي يختلف عن تلك الهيئات التي ارتسمت خريطتها خلال بدء الحرب الأهلية في العام 1975. ومن ينظر الآن إلى هذه القوى وتحالفاتها ويقارنها بتلك التي كانت سائدة سيصاب بدهشة، فمن كان هنا أصبح هناك ومن كان هناك أصبح هنا. وبسبب ضعف الأيديولوجيا اليسارية وانهيار الفكر القومي والعلماني الذي كان يغلف الأحزاب في السبعينات انتقلت الأحزاب الإسلامية إلى صدارة القيادة بسبب شعبيتها وقدرتها الاستثنائية في التأثير على الشارع وتحريكه. مضافا إلى هذه الخصوصية برزت أيضا تلك التشنجات السياسية التي تقوم على منهج الاستقطاب الطائفي والمذهبي وتحولت التحالفات إلى واسطة لاستنهاض العصبيات، الأمر الذي يمكن ملاحظته من تلك المعسكرات الحزبية التي تتركز شعبيتها في المناطق التي يغلب عليها الطابع الطائفي والمذهبي... الأمر الذي بات فعلا يهدد صيغة لبنان (الضعيفة) وربما سيؤدي في حال انفلاته إلى تفكك الكيان السياسي الهش.
اللبنانيون فعلا يمرون الآن في حالات ترقب وحذر من الأيام المقبلة. وبسبب هذا الفراغ السياسي المضغوط نفسيا باستحقاقات إقليمية انقسم اللبنانيون إلى فريق يتطلع إلى أنباء الكواكب وآخر ينتظر أخبار حركة الواقع. فالمتغيرات الإقليمية والدولية انعكست بقوة على ساحاتهم الداخلية وتبدلت التحالفات وتقلص دور الأحزاب القومية والعلمانية واليسارية وظهرت القوى الإسلامية كقوة بديلة ولكنها ليست موحدة في منهجياتها ورؤيتها. فالطابع الطائفي يغلب عليها كذلك ينشد أنصارها إلى تلك التجاذبات المذهبية المقلقة. وهذه التقلبات حصلت كلها بسبب المتغيرات الدولية والإقليمية والعربية وليست ناتجة عن حركة الكواكب والنجوم. فلبنان جزء من محيط سياسي وبيئة ثقافية وهو عرضة للتغيرات بسبب تبدل المناخات العامة وليس بسبب تبدل مواقع أجرام الفلك.
هذا هو واقع لبنان السياسي منذ تكوينه كدولة تتخبط على الأرض وليس في الفلك. فهو تأسس وفق صيغة تسوية ولكنه كان يتحرك ضمن إطار التحولات الدولية والإقليمية. ولذلك كان وجهه السياسي يختلف في كل فترة تاركا تأثيراته على رسم هيئته وهويته الثقافية والأيديولوجية. وبسبب كون هذا الاختلاف الأخير هو الأصعب في تاريخ هذا البلد وبات يهدد الصيغة والكيان لجأ اللبنانيون إلى «فولكلور» التوقعات خوفا من المحيط فاتجهوا إلى قراءة مستقبلهم المضطرب من خلال انتظار أو متابعة ما يقوله المنجمون وعلماء الفلك من أخبار تنقلها الكواكب إلى الأرض.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1579 - الإثنين 01 يناير 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1427هـ