العدد 1578 - الأحد 31 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1427هـ

رسائل تخون القلب

مرآة الكتابة

كانت قد أمضت ساعات ثلاث في كتابة رسالتين، الأولى لصديقة بعيدة والثانية لصديق بعيد، وكانت تكتب بهمة عالية ونشاط، طوت الرسالة بعناية ودستها في مغلف كتبت العنوان بوضوح وتأنٍ، فحروفها تختلط إذا كتبت بسرعة وتصبح الحاء ميما، طوت الأخرى وترددت قليلا في كتابة العنوان ربما تحتاج إلى التأكد، رمت الرسالتين في حقيبة يدها وشعرت براحة بلهاء، اكتشفت وهي تتمدد على السرير طعما أبلها يجتاح فمها يشبه طعم الشاي بعد أكل برتقالة، لها نظرية خاصة "الشاي والبرتقال لا ينسجمان في الفم أبدا، تماما كطعم معجون الأسنان والقبلة. ضحكت مع نفسها من التشبيه وقررت أن تبث نظريتها لاحقا بين الأصدقاء - تدعي أن لها تأثيرا ما -.

عادت تفكر في الرسالتين ربما هما بحاجة إلى تحرير بسيط، ربما اختلطت حروفهما كالعادة وربما خلطت بين الرسالتين وكتبت حوادث متداخلة، مثلا كانت تتخوف هل ذكرت صديقها بأول مرة التقته؟ وهذا كان سؤالا لصديقتها. منذ سنوات عشر وهو متعود على إلقاء هذا السؤال عليها، سؤال ساذج وغريب يطن دائما في رأسها. وربما قالت للصديقة إنها كانت على وشك أن تحبها وذاك بوحا للصديق.

ما الداعي إلى الخوف فهما - صديقها وصديقتها - في المسافة ذاتها منها ولا خوف من تشابك الأسئلة! لكن كالشاي والبرتقال، ضحكت للفكرة، غريب دائما تحس نحو صديقتها بطعم كوب الشاي بالنعناع وهو يشبه البرتقال الطازج في البيارات، وفي زمن بعيد أغرمت بالاثنين كلا على حدة الشاي بالنعناع والبرتقال الأخضر الطازج إلا أن الخلط يسبب لها ذاك الطعم الأبله ويفقد كلاهما الطعم.

ها هي تستعد للنوم، تنام مرة على جنبها الأيمن ثم تنقلب إلى الأيسر ثم تستلقي على ظهرها - تلك عادة يومية على كل حال - ثم تشتاق إلى القهوة برغبة جارفة وتجلس في سريرها وهي تقنع نفسها كالأطفال أن القهوة ستطرد النوم ولكن بمنطق الأطفال تنحاز إلى رغبتها وتعد فنجان قهوة. على غير العادة يبدو طعمه كالتراب فمعجون الأسنان في فمها قاتل تلك مفارقة أخرى.

تشد الغطاء وتعود إلى الرسالتين تتذكر ملامح صديقتها بالكثير من الوضوح وتسمع ضحكة صديقها مثل طعم البرتقال تشعر بأنها أحبتهما، رشفة جديدة من القهوة وشعور بالكراهية يتسرب إلى أصدقائها فجأة، أحيانا لا ندرك لمَ تتجاور المشاعر المتناقضة من دون تحديد من هو الغالب هنا مشاعر الحب أم الكراهية؟ ثمة تردد في قلبها نحو الرسالتين، وحسبما تهيأ لها تماما وهي تلقي الرسالتين في قعر حقيبتها غدا صباحا ستضع تلك الرسائل حدا للصمت الذي طال، ولا ضير من حريق صغير في القلوب.

تغلق الحقيبة في انحياز واضح لحسمها. وتشرب رشفة ثالثة تتذكر أنها كانت متشوقة يوما ما إلى جمع صديقيها بلقاء أول وكانت تترقب - بلا حذر - فناجين القهوة الثلاثة، والقصص التي ستكتمل. كانت قد خبأت في القلب مفاجأتين بقصد المزاح لا أكثر قالت له: صديقتي لا صبر لها فهي تحترق بسرعة مثل سجائرها وكانت تومئ إلى هدوئه القاتل أحيانا. وأخبرتها: "صديقي صوته خافت وذاك بعض سحره فلا تتعجلي تلقي الإجابات". على البعد كانا شديدي الاختلاف، لكن نقطة واحدة واحدة فقط، وباهتة تماما كانت مشتركة لدى الاثنين، الانقلاب المفاجئ من حال الحزن إلى الفرح، أما هي كاتبة الرسائل فكانت شديدة الإخلاص لتفاصيلها تدخل في حزن وكأنها لا تخرج، والشمس صباحا قادرة على تغيير مزاجها، ولها يقين تام أن الفصول تشكلها تماما وتصنع مزاجها، كانت رتابتها تثير الملل، ربما لصديقين نزقين أتى أحدهما من صوت خافت والأخرى "صديقتها" من ضحكة مجلجلة. الضحكة المخبولة بسحر غامر، يتقنون جميعا صنعها، هي وهو وهي، كانت لديها ثقة كاملة بأنها ستروق له وسيروق لها، وهي كاتبة الرسائل ستصفق بمرح لكياستها وقدرتها على إقامة الجسور دوما وبلا أدنى خطأ، هل التقيا؟ هل ضجت تلك الضحكة المتقنة؟ كانت - على كل - دوما تحسن صناعة أول الفرح!

صوت في الخارج لورقة جافة تحركها الريح يشعرها بالخوف وبعض الألفة فالريح تأتي دوما كلما طال صمتها، ترفع ستائرها على غير عادتها وتحدق في الليل يبدو نديا ويستضيف الغيم بصبر يقارب النفاد، فالليل كما خُيِّلَ لها تلك الساعة يحتاج إلى بعض الوحدة ويشعر بالملل. القمر مازال طفلا يحبون، تزيح كل الستائر وتفتح نوافذها كأنه الصباح، همهمات من الريح تتخلل غرفة نومها، هنا على هذه الأريكة بالذات كانت صديقتها تجلس وتدخن بلا انقطاع، أما هو فدائما كان يختار المقعد الواسع، لا أحد يتعدى على موقعها المفضل كانت صديقتها تحب المقاعد الضيقة وهي تخافها وكان هو يحب المقاعد الواسعة وهي تفكر دائما في أن تلك إشارة ذكورية.

تضحك تحس باختلاف صوت ضحكتها والريح تحركها ذات اليمين واليسار. ولكن خيطا من الحزن يمر فالمقاعد فارغة الآن وغدا ومنذ عامين، مازالا صديقيها - على أية حال -. تحس بخدها يبتل فجأة وغباش في عينيها! أمام مرآتها وبضوء خافت تصرخ بلا صوت تمثل هول الصرخة ثم تشعل النور في كل البيت بديلا من جبنها في إشعال النار في كل شيء.

تستل حقيبة كبيرة من زاوية مظلمة في خزانتها وتفرغ محتوياتها على السرير رسائل، صور ورد جاف، قصاصات ورقية، أرقام هواتف، قلم روج مهشم، زجاجة عطر فارغة... ترتب الرسائل بحسب التواريخ، تضع رسائله يمينا ورسائلها يسارا بخبث واضح، تماما العدد نفسه. تختار رسائلهما الحديثة وتدقق، التاريخ ذاته لآخر رسالتين، بفارق بسيط رسالتها في مغلفة ورسالته في مغلفها.

صمت الثلاثة عن هذه المفارقة. تدس يدها في حقيبة يدها تخرج الرسالتين ترتبهما على نحو جديد ورقة من رسالته والثانية من رسالتها، يكتمل العدد بعشر صفحات. تضحك من مفارقة ترتيب الرسائل، إذ كان ذيل العبارة في الصفحة الأولى "اكتشفت أني كنت صانعة فرح فاشلة". وفي رأس الثانية "لا ضير فالقلوب على نحو معين تشاء"، إذا هي على نحو ما تغفر لهما أو على الأقل تعترف بسطوة الهوى.

صانعة فرح فاشلة، العبارة تصدح مثل ضرب الدفوف في رأسها مهلا ألم أصنع الفرح على نحو معين؟ ألم أكن جسرا لعبور قلبين؟ ألم أشهد من دون أن أدري قصة فرح نامية كانت لهما؟ تفتح رسالة لصديقتها قديمة جدا تقولها فيها "صديقك متعجرف، لكنه ذواق في اختيار العطور، اشكريه عني. كانت لطفا فائضا زجاجة العطر الرائعة"، كنت قد حملت لها الزجاجة في عيد ميلادها، وأقرأ في رسالة منه "لغريب أن صديقتك لا تشبهك بتاتا، أنتما متناقضتان تماما... الماء والنار" لم يحدد أين الماء وأين النار. هل أعجبها العطر؟

تضحك فوق سريرها بجنون والكم الهائل من الحقائق كان أمامها بين سطور الرسائل! لماذا لم تشك؟ لماذا كانت شديدة الغباء تقول لها الصديقة :"انتهى كل شيء كانت لنا قصة بائسة". تروي لها تفاصيل علاقتهما كيف مرا بمحاذاتها دونما خطأ، وكانا يشعران بأن الرسائل شعور خاص بالذنب. لماذا لم صمت الاثنان عن الاعتراف؟ لماذا اختارا لهواهما ممرا سريا بعيدا عنها؟ أما هو فقال: "تماما مثل تقشير حبة برتقالة دائما، قررت البوح لك ودائما لم أفعل".

طوت الصفحات العشر ودستها في مغلف واحد، لا ضير، أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهن كاتبة الرسائل حين ذاك وكانت تبعد بقوة من ذهنها أنها تعرضت للخيانة! هل ما ارتكب كان خيانة؟ لم يكن إلا الحب. كانت تتجنب الحديث عن الموضوع وتبتعد ما شاء لها بإيجاد مبرر مقبول يرضي نهارها ولكنه يفشل في إجابة ليلها الأرِق، صعب جدا أن تعترف حتى لنفسها أن مهمتها كانت فقط صناعة أول الفرح، أين الحلوى؟ ولماذا لم تصل إليها بطاقة دعوة لتدشين الحب؟ كانت تقصد أن يلتقيا ولكن! تسأل كاتبة الرسائل نفسها لماذا لم ترق لها قصة الحب؟

العدد 1578 - الأحد 31 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً