العدد 1578 - الأحد 31 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1427هـ

السرور وانفلات من تقليدية اللغة ومضامينها

يبدو أن الملف تأخر كثيرا. تأخر لأكثر من سبب، من بينها، أن حجم العمل امتد حتى كاد يطال أمورا ليست من اختصاص محرر الصفحة، لكن ما يجب التأكيد عليه في هذا المقام، أن الشاعر العذب عيسى السرور لا يحتاج الى مثل هذا الملف أساسا، بحكم أن صيته وحضوره ونفوذ نصوصه امتد ليتجاوز محيطنا الصغير مساحة، الكبير معنى وعطاء، الى محيط عربي شقيق تجمعنا به أكثر من مُشترك. السرور شاعر له من نفوذ الحضور ما يحسده عليه كثير من الذين قدّر لهم أن يحظوا ببعض منه، وخصوصا أولئك الذين لم ينالوا حظهم منه. للسرور معجمه الذي لن نبالغ فيه... معجم ربما تجاوزه كثير من شعراء مملكة البحرين، ولكنه معجم في المقام الأول والأخير لا يفتعل لغته، ولا يستجديها استجداء. هو معجم ينثال بعفوية بالغة، وصدق نتلمسه، ما يجعله شاعرا يأتي بصدق شعور وتوجه وتوظيف امكانات:

أعد بمعجمي أول حروفك لا بغيت العد

أرجّح في خفوقي كفةٍ من ثقل ميزانك

مثل عشرات، مئات، آلاف من الشعراء الذين وجدوا في العاطفة والمشاعر التي يتم اختصارها وتوجيهها أحيانا، وحصرها في امرأة، لا ينفصل السرور عن أولئك، ولن نبالغ بالقول: انه خرج على أدبياتهم وأدواتهم وإمكاناتهم. هو في الصميم من تلك الأدبيات والأدوات والإمكانات، ولكنه لم يتردد في التحايل على الخروج عليها، وهو تحايل - بالمناسبة - لم يتجاوز كثيرا ما أنجزه الآخرون، لكن ما يميز ذلك التحايل هو لعبه وانتقاله المختلف على مستوى بحور وأوزان القصائد التي أدمنها كثيرون. ثمة إيقاع يجترحه السرور ينم عن محاولة لا شك فيها بالخروج على ما ضخه وأنجزه كثيرون من قبله، ومن بعده:

خبّري التوت الذي يحضى على تقبيلك

انْ به بين البشر جمر وْبَرَدْ يغليني

دثّري وجه القمر من سوسنك واكليلك

وامنحيني من وميض الطرف ما يكفيني

مع اجتهاد ملحوظ في ضخ ونحت لغة من النادر أن يعي أو يلتفت اليها مجايلوه، أولئك الذين وجدوا في كلاسيكيتهم الفجّة تكريسا لجدارتهم وأحيانا الوهم بتلك الجدارة. ذلك يذكرنا بشعراء خمسة في مملكة البحرين: عبدالله حماد، إبراهيم المقابي، بدر الرويحي، بدر الدوسري، وخليفة اللحدان، ومن الأسماء النسائية، نظل ننحاز الى: أمينة الشيخ، ظمأ الوجدان، والأخيرة بتقليديتها المملة والمزعجة أحيانا. الاختلاف الذي يمكن أن يُسجل للشاعر الجميل عيسى السرور، يتحدد في انفلاته من تقليدية على مستوى تكوين وعناصر النص، وإن لم يستطع تحقيق ذلك الانفلات على مستوى البنية الأساسية له، والتي جُبل وأدمن عليها، ضمن اشتراطاته التقليدية من وزن وقافية، وإن بدا ذلك الانفلات ناقصا بعيدا عن الدخول في مشروعات تجريبية تتيح له ولغيره من الشعراء آفاقا من التجربة تكشف عن العميق والحقيقي من التحايل، وأعني به الانفتاح على تجارب يتحرر فيها الشاعر من الاشتراطات المزمنة والمكرّسة والمفروضة من بيئة تضعها ضمن الالتزام والانتماء، في حدود فهمها ووعيها وإمكانات فرزها وتبيانها.

شاعر بحجم السرور يصدر عنه:

والله اني لو بسطت العمر في تدليلك

ما وهبتك عشق الا ما تخلل فيني

اذ يظل قادرا على أن يتمرد على تقسيمة الأوزان، بما يضاعف الاعجاب والحرفنة البلاغية والتخيلية.

وشاعر قادر على الامساك بحساسية اللحظة الشعرية، ودقائق الصورة، ولفتة المعنى:

سمّعيني يا بروز الفجر من ترتيلك

لجل تنساب الجداول بينك وما بيني

اختلاف وانحياز

ثمة قدرة ملفتة لدى هذا الشاعر المشاكس، على الخروج على نظامية النص الذي تربى ونشأ ووعى عليه من خلال لغة لا تحتمل بنية النص الذي ينحاز اليه: بنية جاهزة في اشتراطاتها، ولكنه يكسر جاهزيتها وبنيتها من خلال لغة مربكة لتلك البنية:

من برد ما ترتجف يا لغاليه اضلعك

إن صابني سو بالرجفه غدتْ سافره

على أن ما يجب ملاحظته في هذا الصدد أن ثمة تكريسا غبيا وساذجا ومستهلكا من قبل عدد من الشعراء، لحال عاطفية مصطنعة ومُتوهّمة ومكررة تكمن في إعادة انتاج علاقات عاطفية، أو تكريس حالات وعلاقات لا تتجاوز الشخصانية، والتجربة الفردية، ومعظمها في مساحة من المتوهم - كما أشرت - والمتُصوّر، و- أحيانا - المفتعل. لكن السرور يأخذك الى مساحات يعمل من خلالها على "فلترة" حال التوهم والتصور والافتعال من خلال عفوية بالغة، وصدق شعوري وحساسية ملفتة. أعيد الاستشهاد بالبيتين السابقين:

خبّري التوت الذي يحضى على تقبيلك

انْ به بين البشر جمر وْبَرَدْ يغليني

دثّري وجه القمر من سوسنك واكليلك

وامنحيني من وميض الطرف ما يكفيني

لن أبالغ في القول: ان البيتين المذكورين، ومن دون انحياز، يعادلان لدي عشرات القصائد المنتسبة الى خروج محض وصريح على نظامية واشتراطات القصيدة التي باتت قائمة، وأحيانا مفروضة على وعي جيل طاعن في التجربة. ما يجب رصده في هذا المقام ونهايته، أن الشاعر عيسى السرور واحد من أهم شعراء مملكة البحرين، وأجدرهم بأن يأخذ مواقع متقدمة وبارزة في المشهد الشعري في المملكة، ليس باعتباره واحدا من المبرزين في السائد والمكرّس من نماذج التوجه في الكتابة بانحياز بالغ من قبل المنابر الشعرية المتاحة، بل باعتباره أحد القادرين على الخروج على ذلك المكرّس من تلك النماذج وتوجهها، والانحياز اليها بما يملكه من إمكانات ملفتة وعميقة على مستوى توظيفه للغة ومآلاتها.

العدد 1578 - الأحد 31 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً