العدد 1578 - الأحد 31 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1427هـ

الشعر البدوي في مقدمة ابن خلدون ( -1 10 )

مرحلة انتقال الشعر في بادية الجزيرة العربية من النمط الكلاسيكي إلى النبطي ، يلفها الغموض ؛ نظرا لاتساع الفجوة الزمنية التي تفصل ما بين آخر نموذج وصلنا من الشعر البدوي الفصيح ، وبين أول نموذج وصلنا من الشعر النبطي.. تتسم هذه الحقبة من تاريخ الجزيرة العربية بالاضطراب ، وشح الوثائق المدونة .. فنحن لا نعرف بالتحديد المراحل التي مرت بها لغة الشعر في الصحراء العربية ، في تحولها من الفصحى إلى العامية ، ولا متى طغت العامية على اللغة ، وبدأ أعراب الجزيرة الأميون ينظمون شعرهم بلغة لا نتردد ولا نتحرج في إطلاق صفة العامية عليها ؛ لغة تخطت مرحلة الفصاحة وتجاوزت ظاهرة اللحن ؛ لتصبح عامية غامرة لا تخطئها العين .

إذا كان أقصى مرامنا أن نتبين متى تفشت العامية ؟ ؛ لدرجة أن بدو الصحراء صاروا ينظمون بها شعرهم ، فإنه حسبنا العثور ولو على بيت واحد من الشعر العامي الذي نعرف بدون شك نسبته والعصر الذي قيل فيه. وهنا تتجه الأنظار عادة إلى مقدمة ابن خلدون التي ظلت حتى الآن من أهم وأقدم المصادر التي يمكن الاستفادة منها ؛ لسد الفجوة الزمنية الواسعة التي تفصل ما بين الشعر الفصيح والشعر النبطي في بادية الجزيرة العربية .

أورد ابن خلدون في مقدمته ، وفي بداية الجزء السادس من تاريخه عينة من قصائد بني هلال ، التي يرى البعض : أنها تمثل المرحلة الانتقالية من الشعر الفصيح إلى الشعر النبطي . وفي غمرة حماس هؤلاء لهذا الرأي فاتهم طرح بعض التساؤلات التي لابد من التحقيق منها قبل البت النهائي في قيمة المقطوعات التي أوردها ابن خلدون كنماذج لبدايات الشعر النبطي.

من هذه التساؤلات مثلا : متى نظم الهلاليون هذه الأشعار ؟ قبل تغريبتهم ؟ أم أثناءها ؟ أم بعد استقرارهم في المغرب وانقطاع صلتهم بالجزيرة العربية ؟ من قالها ؟ هل هم الأشخاص الذين تنسب إليهم أم أحفادهم الذين أرادوا تسجيل أمجاد أسلافهم وتخليد ذكراهم ؟ هل هذه الأسماء التي نسب ابن خلدون هذه المقطوعات إليها شخصيات حقيقية لها وجود تاريخي أم أنها من اختراع القصاص ومنشدي السيرة ؟ هل تلقى ابن خلدون المقطوعات التي أوردها مشافهة من الرواة أم أنه عثر عليها مخطوطة ؟ هل هذه الأشعار بداية الشعر النبطي أم بداية شعر السيرة ؟ هذه بعض القضايا التي سنتطرق لها في الأسطر التالية .

أجناس الشعر البدوي في المقدمة : في الفصل المعنون بـ " في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد" من مقدمته يتناول ابن خلدون شعر البدو ويتحدث عن خصائصه اللغوية وسماته الفنية والأدبية ، ويقدم في هذا الفصل وفي بداية الجزء السادس من تاريخه العديد من القصائد التي اقتبس معظمها من بدو بني هلال في شمال إفريقيا . ويؤكد ابن خلدون : أنه إذا ما أخذنا في الاعتبار ما يحتمه مرور الزمن من حدوث تغيرات طفيفة على لغة البادية ، فإن شعر البدو في عصره ، على خلاف الزجل والموشحات وغيرها من أشعار أهل الأمصار ، يمثل الامتداد الطبيعي لشعر الجاهلية وصدر الإسلام من حيث اللغة والشكل والوظيفة والأغراض ، وحتى في الأوزان والعروض : " أما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر ، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام . وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم وأثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون " .

ثم يردف قائلا في القيمة الأدبية لشعر البدو : "ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة ، وفيهم الفحول والمتأخرون . والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد ، وخصوصا علم اللسان ، يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد ، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها وهذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم . فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم ؛ لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره ، وإلا فالإعراب لا مدخل لـه في البلاغة ، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه ، سواء كان الرفع دالا على الفاعل والنصب دالا على المفعول أو بالعكس . وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام ، كما هو في لغتهم هذه . فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة : فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة ، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة . ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك " .

لقد سرد ابن خلدون النماذج التي أوردها في مقدمته من الشعر البدوي بطريقة مضللة إلى حد ماء ، قد توهم القارئ المستعجل بأن هذه النماذج تنتمي إلى نفس الجنس ؛ إلا أن هذا السرد يمكن تقسيمه إلا ثلاثة أجناس: 1-أشعار ذاتية تاريخية لا نشك في نسبتها ، وهي التي نعتبرها بدايات الشعر الملحون في شمال أفريقيا .

2-أشعار تدخل في نطاق السيرة الهلالية وتعتبر الإرهاصات الأولى لها .

3-قصائد تقف في مواجهة بقية القصائد وتتميز عنها في كونها تأتي فعلا من بادية المشرق ، وليس من بادية المغرب وهي بذلك تعتبر مثالا جيدا لبدايات الشعر النبطي .

1 - أشعار ذاتية لشعراء هلاليين من المغرب . على الرغم من الاهتمام النظري الذي ابداه ابن خلدون تجاه شعر البدو في عهده ، وحديثه عن علاقة ذلك الشعر بالشعر العربي القديم الذي ترعرع في بلاد العرب ، فإن معظم النصوص الشعرية التي ساقها لم تأت من بدو الجزيرة العربية ، وإنما أتت من بدو بني هلال ، وقد قيلت بعد هجرة القبائل الهلالية واستقرارها في شمال أفريقيا ، بعيدا عن بلاد العرب . ومن المعلوم أن بني هلال وبني سليم بدأوا هجرتهم من الجزيرة على شكل موجات بشرية منذ نهاية القرن الرابع الهجري ، وكانت لغتهم - فيما يقال - فصيحة آنذاك وشعرهم فصيحا . وبعد مرورهم على العراق والشام واستقرارهم لبعض الوقت في مصر اجتازوا إلى المغرب في أواسط المئة والخامسة .. يذكر ابن خلدون في بداية الجزء السادس من تاريخه : أن بني هلال وسليم انتقلوا إلى المغرب في أواسط المئة الخامسة .

وبعد عدة أسطر يقول " وكان شيخهم أواسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد بن حميد " . أي أن ابن خلدون جاء ليكتب عن بني هلال بعد ثلاثمائة سنة من استقرارهم في المغرب ، وبعد حوالي أربعمائة سنة من تركهم جزيرة العرب . أي أن هذه القصائد كلها جاءت في وقت متأخر ربما تجاوز مئتي سنة من قدوم بني هلال إلى المغرب بعد أن بدأت لهجة الهلاليين في شمال أفريقيا تختلف عن لهجة أسلافهم في جزيرة العرب ، وبعد قطعوا صلتهم بعرب الجزيرة . من بين هذه النماذج قصائد قالها المتأخرون منهم ، وبعضهم ممن عاصرهم ابن خلدون . وهذه لا نشك في نسبتها ولا في تاريخية الأحداث التي تطرق إليها ولا في حقيقة وجود الأشخاص الذين قالوها أو وردت أسماؤهم فيها .

ينسب ابن خلدون هذه القصائد إلى قائليها من رجالات وشيوخ بني هلال الذين عاصر بعضهم ، ويذكر أسماءهم ويحدد المناسبات التي قالوا فيها قصائدهم والشخصيات التي وجهوها إليهم . من هذه القصائد قصيدة يوردها ابن خلدون لأمير من أمراء بني هلال كان قد وجهها إلى منصور أبو علي . ويقدم ابن خلدون للقصيدة بقوله " ومن شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته " . ومنها هذه الأبيات:

ألا يا ربوع كان بالأمس عامر

بحي وحله والقطين لمام

وغيدٍ تداني للخطا في ملاعب

دجى الليل فيهم ساهرٍ ونيام

ونعمٍ يشوق الناظرين التمامه

ليا ما بدا من مفرقٍ وكظام

وغدفٍ دياسمها يروعوا مربها

واطلاق من سرب المها ونعام

واليوم ما بها سوى البوم حولها

ينوحوا على اطلالٍ لها وحمام

وقفنا بها طورٍ طويل نسالها

بعينٍ سخين والدموع جمام

ولا صح لي منها سوى وحش خاطري

وسقمي من اسبابٍ عرفت وهام

ومن بعد ذا تدي لمنصور بوعلي

سلامٍ ومن بعد السلام سلام

العدد 1578 - الأحد 31 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً