إذا أردتَ أن تحلم فاحلم بأشياء كبيرة فهي بلا حساب. لكن ذلك لن يُنتِج واقعا أو صرحا، لأنه لم يَزِدْ عن كلمة «حُلْم». هذا ما فعله بالضبط معارضو سورية في لبنان. تجاوزوا كلّ الأعراف في تظهير شرّ مستطير قالوا بأنه دمشقي وفشلوا.
فشلهم حتمي. لماذا؟ تُذكّرني هذه النتيجة بما كان يقوله رايموند فيسمان أستاذ كرسي عائلة لامبرت للمبادرة الاجتماعية في كلّيّة كولومبيا لإدارة الأعمال. كان يقول «عدد كبير من التغييرات هو نتيجة تحوّلات بطيئة».
ضمن ذلك التقدير لـ «فيسمان» أستحضر أيضا ما كان يقوله هالفورد ماكِندر حول الجغرافيا وقيمها، أو «المحيط الجغرافي للتاريخ» كما سمّى كتابه الثمين. وأيضا أستحضر قول فرناند برودِل عن دور الجغرافيا في الإفضاء إلى توجّهات تاريخية باقية.
سورية جارة للبنان. جيرتها تلك خلقت بؤرا راسخة للتاريخ وللبشر وحتى للخيارات. لذا كان من المعيب جدا أن يهزأ المتطفّلون على السياسة حين قرّروا مَحْو تلك الحقيقة بجرّة قلم، أو بزعيق مَقماقين في تجمّع جماهيري أو في ندوة تلفزيونية.
خلال ممارساتهم تلك ارتكبوا أخطاء لا تُغتفر. كبير تلك الأخطاء هو دفع جزء كبير من اللبنانيين لأن يتخلّوا عن فرديتهم في سبيل شعار «العداء لسورية». كان ذلك تضييعا لحوافز وطنيّة يُصبح التضحية في سبيلها بمثابة «الموت العُمومي» الرخيص.
الخطأ كان مُركّبا. فهو من جهة ضدّ الهوية التاريخية والجغرافية للبلدين، وأيضا ضد موقع سورية المحوري في الصراع الإقليمي ضد الكيان الصهيوني، والدولي في مواجهة الجموح الغربي ضد مصالحها ومواضعها في التحالفات القائمة.
فدمشق رافعة قوميّة ناجزة. استَدَقّ بها أنف الهوية العربية الأفطح بعد كامب ديفيد الأولى. وتَقَوّم بها ما بالسّاق العربية من حَنَفٍ بعد استراتيجية السّلام المُوَهِّن، الذي أعاق إرغام تل أبيب على فهم أن للعالم العربي قوّة، إن لم تكُن في أنظمته السياسية فهي في أمّته.
اليوم أدرك هؤلاء أن شعارهم في إسقاط «طاغية الشّام» أصبح طُرْفة يتندر بها المتندّرون. وأن شعارهم في نزع سلاح حزب الله أصبح كابوسا لهم بعد السابع من مايو/ أيار. وأن البقاء في فَرْوِ الأغلبية قد أعادهم إلى رؤية الأحجام ذاتها وكما كانت.
باعتقادي أن السُّبّة الأكبر التي ستلاحق قوى الرابع عشر من مارس/ آذار هي في تمثّلهم كوكلاء للمحافظين الجُدد الأميركيين في لبنان. ففي الوقت الذي كانت الشعوب الغربية تنتفض ضدهم كان هؤلاء يتعبّدون بسياساتهم في المنطقة.
هذا المسار دفع بهم إلى إبرام عقد مع غير لبنان. العقد كان مع أعدائه بامتياز. فكما رحّب فيليب بيتان بالجيش النازي تحت قوس النّصر في فرنسا، رحّب هؤلاء وبحفاوة قلّ نظيرها بمُرتكبي الجريمة على أرض لبنان.
لم يتكلّفوا استدارة واحدة ليروا أن المُسعِفين كانوا لا يزالون ينتشلون الشهداء والجرحى من تحت الأنقاض التي دمّرتها أسلحة مَنْ هُم في ضيافتهم خلال حرب تمّوز. كان ذلك مشهدا مريعا وبائسا في حقّ أبطاله.
توهّموا أكثر من اللازم. صَغَّرُوا من كلّ الحقائق الموجودة حولهم وبجانبهم. في الداخل كانوا ينظرون إلى المعارضة وقوى الثامن من أيار على أنهم بمثابة الجسد المُبرعم ببثور وصدأ سيسقط بمجرّد حكّةٍ على جلده، لكنهم أدركوا لاحقا أن ذلك جزء من حُلم.
اليوم وحين يُقرّر أولئك استيعاب الخطأ مع الداخل والحجّ إلى دمشق بعد انقلاب جنبلاط، تُصبح القضية برمّتها مربعا أولا. لكن الأهم من كل ذلك هو أن مسيرة الاستيعاب فرضت على البلد فواتير باهظة، بدءا من الدم وانتهاء بالخصومات الطائفية فمن يدفعها؟
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2533 - الأربعاء 12 أغسطس 2009م الموافق 20 شعبان 1430هـ