التاريخ ملك الأمة، ومن حق الشعب أن يخط تاريخه بيده، كم جميلا أن تتنوع مرايا التاريخ ويكتب فيه الفنان والطبيب والأديب والسياسي والمؤرخ، كل من زاويته.
طالعتنا الصحف المحلية مؤخرا خبرا مفاده بأن وكيل وزارة الصحة السابق، استشاري أمراض وجراحة الحروق والتجميل عبدالعزيز يوسف حمزة قد دشن كتابا تاريخيا يحمل عنوان «دموع على جزيرة» يؤرخ فيه لتاريخ الكوارث الطبيعية في البحرين، ومن أبرزها سنة الطبعة 1925م، الطبيب ينظر بعين الحياة والألم، لذا جاءت كتابته من زاوية الحوادث وما قوله في حادثة طائرة أغسطس/ آب 2000م «كانت أكثر الحوادث ألما بقي محفورا في ذاكرتي» إلا خير دليل على ذلك.
لم يكن حمزة الوحيد من كتب في تلك الحوادث كطبيب، فقد سبقه الطبيب الهندي بندر كار، الذي انتدبته حكومة البحرين العام 1925م للعمل في المستشفى العائم التابع للغوص. حيث يركب السفينة المزودة بأدوات العلاج والأدوية والضمادات الطبية، ويتجول مع طاقمه بين مغاصات اللؤلؤ لعلاج الحالات المرضية بين الغواصة، وتستمر جولته هذه من ثلاثة أسابيع إلى أربعة خلال موسم الغوص، وقد وصف بندر كار حادثة الطبعة في محاضرة له قدمها العام 1955م، وأعادت مجلة «الوثيقة» نشرها في يونيو/ حزيران 1988م بقوله: «في العاشرة مساء كانت هناك كارثة في الطريق، ففي هذه الساعة المتأخرة تعرضت البحرين والمنطقة المحيطة بها لعاصفة مرعبة فاجأت مئات السفن التي كانت راسية في المغاصات والتي كان آلاف العاملين عليها يرقدون في سبات عميق بعد يوم عمل شاق من دون أن يشعروا ببوادر الكارثة في هذه الليلة الشتوية، وفي الصباح التالي... وجدنا مئات السفن مقلوبة وطافية فوق سطح الماء ولكننا لم نجد أثرا للضحايا فيما عدى شخصين معلقين بحطام إحدى السفن وقد توفي أحدهما من التعب قبل أن نصل للميناء. وقد بلغ عدد الغرقى حسب التقديرات المعتدلة خمسة آلاف شخص».
هكذا الإنسان الطبيب حين يتحدث عن التاريخ، إما الفنان فوصفه مختلف، ورواياته مختلفة أيضا، فيشير عبدالكريم العريّض في كتابه حصاد الفن عن جماعة الهنود الهندوس في البحرين، إذ يصف وصفا لمعبدهم «زالديوس» الواقع في عمارة البانيان بالمنامة، وكيف يحتفلون بعيدهم المقدس «ديوالي» في أول يوم من السنة الجديدة عند الهندوس، وعادة ما يصادف النصف الأول من شهر مارس/ آذار في مهرجان خاص يقيمونه سنويا، إذ يطوفون شوارع المنامة، وهم يدقون الطبول وينشدون الأناشيد الدينية وثيابهم البيضاء ملطخة بالعديد من الألوان. وهم في طريقهم إلى المعبد، حيث يتقدمهم زعيمهم المهراج إذ يصفه العريض بقوله إنه «رجل عجوز قصير القامة نحيف الجسم يرتدي إزارا وقميصا أبيض اللون، ولحيته طويلة بيضاء مشوبة بصفرة عند فمه» العريض فنان يصف الألوان والحركات، ويهتم بكل ما يوحي برسم لوحة فنية معبرة كل التعبير عن حالة الفرح أو الحزن.
أما التاجر فحكايته مختلفة تماما فخالد كانو، حين كتب عن بيت كانو... قرن من الأعمال التجارية لشركة عائلة عربية، أرّخ لقطاع التجارة في البحرين بعد الحرب العالمية الأولى، إذ عرفت البحرين الوكالة التجارية لأول مرة على يد جده الحاج يوسف بن أحمد بن كانو، حين أصبح الناقل الوحيد في المنطقة، إضافة إلى كونه وكيلا لعدد من الشركات الأجنبية، حيث أشار كانو إلى الوكالات التجارية لعائلته مثل شركة فرانك سي ستريك البريطانية، والتي تمثل نشاطها في الملاحة ونقل الركاب والشحن، وتجارة المواد الغذائية كالتمور والشعير والحبوب، وبيع المعدات الميكانيكية والمولدات الكهربائية، وذلك عن طريق مكتب الشركة في البصرة. وشركة أبوك - الشركة البريطانية الفارسية للنفط - والتي تزوده بالمنتجات النفطية من الكيروسين المستخدم في المنازل للطهي، ووقود السيارات والطائرات، وكانت تلك المواد تشحن في صفائح وبراميل من إيران إلى البحرين، وللتمييز بين تلك البراميل كانت الشركة توضع صورة الأسد على براميل وقود السيارات، وعلامة النخلة على براميل الكيروسين، وعلامة الصليب باللون الأحمر على براميل وقود الطائرات. كما اتخذت شركة كانو وكالة لبيع سيارات، بالإضافة إلى أنها تعاملت مع كل من: شركة ستوبيكريشن الأميركية للسيارات، وشركة دنلوب للمطاط، وشركة شاشا في تزويدها بالمحار، والشركات اليابانية في تزويدها بأجهزة الراديو والساعات الكهربائية والأسمنت والشاي الأسود.
وفي السياسة هاهي الشيخة مي آل خليفة ابنة الأسرة الحاكمة ترد في كتابها «مع شيخ الأدباء في البحرين الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة» على قول أمين الريحاني (أشد ميلا إلى الأدب والشعر منه إلى السياسة) بقولها: «لم يكن بعيدا عن كل ذلك وإنما كان متجنبا للمواجهة السياسية المباشرة لوضعه الحساس فكونه ابن الحاكم المخلوع كان قيدا يلزمه باتّباع أسلوب خاص في التعامل مع جميع الأطراف، وكان الحذر والتحفظ طابع علاقته الخاصة بالسلطات الإنجليزية»، وحين نتحدث عن المناطق وسكانها، يأتي أهل المنامة في المقدمة فأهل مكة أدرى بشعابها وهذا ما يشير إليه السيد القاهري أحد مؤرّخي المنامة بقوله إنها: «تشكل نسيجا متعددا من الأفراد والعوائل ومن طوائف شتى من سنة وشيعة وعجم وعرب وهنود ويهود»، وفي هذا الصدد يشير تقي البحارنة حينما يتحدّث عن طفولته في المنامة في كتابه «أوراق ملونة» بأن التاجر منصور العريّض كان يمنع الأطفال من متابعة جنائز الهنود المتوجهة إلى المحرقة، بل كان يوبخهم حين يصرخون خلف الجنازة بعبارة «رام رام مركيا».
هكذا هي البحرين وتاريخها في عيونهم من مختلف الزوايا ومن مختلف الاتجاهات، فهي دعوة صادقة لأن يسجل الجميع ما يرونه وما يحسون به، فكل له عالمه، ومن تلك العوالم نصنع التاريخ.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 2532 - الثلثاء 11 أغسطس 2009م الموافق 19 شعبان 1430هـ