قلت لنا يوما بأن كتابا سوف يرد من ديوان السلطان يقرؤكم السلام ويقول لكم سوف تكون الشورى بيننا وبينكم، قلت لنا يوما إياكم وأن تفرطوا بجوهر ما طالب به الآباء وطالبنا به وطالبتم به، إياكم أن تدعو الناس إلى ملهاة عابثة، يطالبون ويصرخون ولا ينالون شيئا، إياكم إهدار تراكمات الزمان.
قالها الشيخ الذي يخاف سلطان خطابه وسطوة نقده الجميع، لذلك تفننوا في إيذائه تجاهلا وسخرية وتشهيرا وسجنا واحتجازا في مستشفيات قيل إنها أخطات وصف الدواء حتى كاد القلب الكبير أن يتوقف، فهو مثالا لمقولة غاندي الشهيرة «أنهم في البداية يتجاهلونك ومن ثم يسخرون منك ومن ثم يواجهونك قبل أن تنتصر».
لقد انتصر الشيخ ببقائه في وجدان الناس، ذلك الوقور ذو الوجه المضيء وكأن لفحة من هواء الجنة لامست ملامح محياه، كان كذلك في حالات الاقتياد الجسور الى الزنازن والمخافر وغرف المحاكم، كان كذلك في حالات التندر على الواقع المرير لإطفاء لهيب من لم يستطع الكلام، فالنطق في ذلك الزمان حرام، وكان النطق والاستنطاق لدى الوالد الشيخ كرشفة الماء، نْعم الشيخ الذي إذا ما جلس في مكان يصعب على أيّ كان أن لا يكون مستحوذا على تفكيره وخلجاته، فمنهم الخائفون والطامحون والملتمسون لكلمة الحق التي سوف تشفي الغليل، صوت مجلجل وحضور يختزل الآخرين.
ها قد جاءت ذكرى رحيلك وأنت لم تغادر، وأن هناك كوكبة من رجال وشباب المحرق الأبية ممن يمتلكون شعورا غامرا بأنكم أحياء، أنت وأبطال تلك المدينة يشعرون بأنكم تعلمون أخبارهم يشعرون أنكم تراقبونهم تخالجهم أحاسيس أنكم تلتقون على مر الزمان وتتحدثون عما يعانيه الناس.
يا والدي لا أخفيك يتجاذبنا ما هو مبدأي وأنتم سنده وحراس أبوابه وما هو سياسي لنحمل ما ينبغي من مهمات الإنجاز فنستشعر المخاطرة والخوف من الوقوع في المحذور وهو التفريط في دائرة الشكيمة.
إننا نستشعر وجودكم ونسمع صوتكم قاومتم الإيذاء على طريقتكم ونقاوم الإيذاء على طريقتنا وفقا لوصاياكم ولقواعد التربية الرصينة من الآباء للأبناء.
«مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلا» (الأحزاب:23)
فقد تعددت بنا الدروب واختلف الأصحاب على مناهج الزرع بعد أن تم الحرث في زمانكم والناس مازالت تنتظر الحصاد الذي قيل إنه سيأتي ولم يأت، قيل لنا بأننا سنناقش الضياع لنعرف أين نجد بلادنا، فغادرنا إلى حيث تناقش ويوضع لها المعايير، فغادرنا إلى هناك حيث القبة فوجدناها محاصرة من النافذين والمنتفعين، ذات الوجوه وذات القوافل التي تعد الناس ببلوغ المسجد الحرام ولكن تأخذهم إلى مواطن الكلأ وواحات الماء العذب فيأكلون هم ويجوع الناس ويرتوون هم ويعطش الناس، ذات الوجوه هم ذاتهم الذين يعتلون المنابر ويتهجدون بآيات الكتاب ويصورون كيف عاش عمر ابن الخطاب رضي الله عنه شظف العيش واسوداد الجلد وارتداء الخشن الرخيص من الثوب، وهم يتلألؤن بأوداج وردية ويركبون الحديث من دواب العصر، لن أسهب يا شيخ الزهاد كنت تستطيع أن تنال أضعاف ما نالوا على أن تصمت فقط، فلم تصمت، فإن الايمان بالله ونبيه والمرسلين لديك عظيم، حاولت أن تعلمهم فسخروا كما قال لهم أسيادهم.
عندما يدلهم بنا الخطب يا والدي نستجير بذكراك، فلتعّنا ملحمتك التي لم تزدك إلا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا على درء الكرب والابتلاء.
أيها الشيخ الجليل
ها قد جاءت ذكرى رحيلك وأنت لم تغادر.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله هاشم"العدد 2531 - الإثنين 10 أغسطس 2009م الموافق 18 شعبان 1430هـ
نشكر للمحامي القدير عبدالله هاشم هذا المقال الأكثر من رائغ
نشكر للأستاذ عبدالله هاشم هذا المقال ،،، والذي إن دل على شىء إنما يدل على نبل أخلاقه ومعدنه الطيب في حب الناس ودفاعه المستمر لإعلاء كلمة الحق التي حملها بين جوانح قلبه ووجدانه ،،، لا حرمنا الله منك ولا حرم أبناء الوطن منك