إنها قصة مألوفة: فلـ «إسرائيل» وراعيتها العالمية علاقة متينة الوشائج. وقلّما يتذكرُ أحدٌ أن زمنا قد مرّ على البلدين لم تكن فيه عُرى العلاقة بينهما وطيدة. أما سرّ هذه الشراكة فهو تعاون البلدين القوي في احتواء تهديد الأنظمة والحركات الراديكالية في الشرق الأوسط.
وبعد سنوات من الاضطرابات السياسية والمشكلات الاقتصادية، أنتجت جولة انتخابات تاريخية عملية إعادة ترتيب في الدولة الراعية. فقد قام الرئيس المنتخب حديثا، ذو الشعبية الواسعة، ببعض الخطوات الجذرية نحو تحويل سياسة بلاده الخارجية، ولاسيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، حيث سحب قواته العسكرية من بلد عربي مُحتّل، ومضى إلى مسافات كبيرة في طريق تحسين أواصر العلاقات مع البلدان الأخرى في الإقليم.
وفي مواجهة هذا التغيير التاريخي، تزايد قلق «إسرائيل» حول ما إذا كان الرئيس الجديد سيواصل إدامة العلاقة المتينة الراسخة التي سعى أسلافه إليها، وأداموها.
وعلى رغم قلقها المتزايد، فقد قررت الدولة اليهودية أن ترمي بنصيحة راعيتها عرض الحائط، وأن تَشُن ضربة عسكرية ضد بلد شرق أوسطي. فما كان من الرئيس الجديد للدولة الراعية إلا أن شجب واستنكر الهجوم، وبدأ مرحلة إنهاء التحالف الدبلوماسي والعسكري مع عميلهم في الشرق الأوسط. مما حدا بـ «إسرائيل» أن تبحث عن راع ٍ قوي جديد.
فقد كانت «إسرائيل» وفرنسا صديقتين حميمتين منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، وقد تحوّلت علاقتهما إلى تحالف استراتيجي مثمر عندما بدأ الضابط المصري جمال عبدالناصر، ذو الشعبية والكاريزما الكبيرين، بتقديم الدعم للمتمردين الذين يقاومون الحكم الاستعماري الفرنسي.
غير أن انتخاب ديغول العام 1958 غيّر كل هذا. فقد فاجأ ديغول الكثير من أنصاره ومؤيديه عندما اعتنق أجندة تحولية في سياسة بلاده الخارجية، أدّت إلى منح الجزائر استقلالها العام 1962، فضلا عن عملية ترميم العلاقات مع مصر وبقية العالم العربي. ومع التوتر الذي زادت حدته في الشرق الأوسط العام 1967، ضغط ديغول على الإسرائيليين لمنعهم من مهاجمة مصر، وأعلن في الثاني من يونيو/ حزيران حصارا يحرم فيه «إسرائيل» من الأسلحة، قبيل اندلاع الحرب بثلاثة أيام.
لقد لعب موقف ديغول العام 1967 في حرب الأيام الستة دورا في تنامي شعبية فرنسا في أوساط العالم العربي، بينما اتجهت «إسرائيل» نحو الولايات المتحدة للحصول على الدعم العسكري والدبلوماسي.
فهل يستطيع الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يلعب دور ديغول أميركي؟ هل سيؤدي قرار إسرائيلي برفض نصيحة أوباما لها بعدم توجيه ضربة عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية المزعومة إلى إعادة تقييم تاريخي للعلاقات بين واشنطن وأورشليم؟
إذا، ما الذي يميّز القضية الفرنسية عن الأميركية؟
حسنا، من ناحية، إن السياسة الخارجية الأميركية كانت تتأثر كثيرا بالقوة المستمدة من الرأي العام، ووسائل الإعلام، والكونغرس، أكثر مما هو الحال مع السياسة الخارجية الفرنسية التي تميل إلى كونها خاضعة لحسن تقدير السلطة التنفيذية القوية والمجموعات النخبوية. إن التوجه المناصر لـ «إسرائيل» بين أوساط الكونغرس الأميركي قد لعب دورا كبيرا، وبشكل واضح، في تقييد أي رئيس أميركي ومنعه من محاولة إعادة النظر في توجه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وعليه، فالتوقعات تفيد بأن الكونغرس سيلعب الدور الراسخ في القدم نفسه إذا ما أقدم أوباما على أن «يحذو حذو ديغول».
وعلى رغم هذا، فإن العلاقات بين الأمم والدول، ولاسيما بين الدولة الراعية وعميلها، هي علاقات قابلة للتغيير، والكثير من الإسرائيليين يدركون هذا الأمر جيدا.
ولكن على رغم مثل هذه المخاوف من الطرف الإسرائيلي - وبارقة الأمل بين أوساط الفلسطينيين - فإن أوباما ومساعديه لم يصدروا حتى الآن أية خطة سلام شاملة في الشرق الأوسط، أو يتخذوا أية خطوات تنبئ بتغيّر تاريخي، على غرار ديغول.
كثيرا ما كرر الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون المواقف الأميركية، بما فيها حاجة «إسرائيل» إلى الانسحاب إلى حدود العام 1967 - مع بعض التعديلات الطفيفة - كجزء من الاتفاق العربي - الإسرائيلي، ومعارضة تأسيس المستوطنات اليهودية في الأراضي العربية المحتلة، ودعم فكرة أن تكون السيطرة على القدس، بما فيها الأراضي الدينية، مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
على رغم ذلك، فإن هناك إحساسا مُدركا في واشنطن وفي عواصم الشرق الأوسط أن «شيئا ما» قد تغيّر في طريقة الولايات المتحدة. ولكن هذا «الشيء» يعكس تغيّرا في النبرة والأسلوب أكثر من كونه تغيّرا في الجوهر.
كما أن هناك تناقضا حادّا أيضا بين أوباما وحكومة جورج دبليو بوش، التي أكدت بقوة على الروابط الأميركية - الإسرائيلية والمصالح المشتركة في محاربة التطرّف في المنطقة.
كما أن انتخاب بنيامين نتنياهو رئيسا لوزراء «إسرائيل» قد وفّر لأوباما فرصة لخلق الإحساس بأن «شيئا ما» كان يتغيّر فعلا في طريقة الولايات المتحدة في التعاطي مع الشرق الأوسط.
لقد اجتمع نتنياهو مع أوباما في وقت مبكر من هذا العام تحديدا بعد ثماني سنوات من طرح تلك الأفكار التي ساعدت على وقوع واحد من أسوأ الإخفاقات الاستراتيجية في تاريخ الولايات المتحدة - ألا وهو غزو العراق العام 2003. وطالب أوباما نتنياهو بوقف توسيع المستوطنات في الضفة الغربية.
إن هذا الموقف العادل للولايات المتحدة أغضب نتنياهو. فخلال زيارته لواشنطن، أكد الأخير على الحاجة إلى التعامل مع التهديد المحتمل الذي تشكّله إيران النووية قبل اتخاذ الخطوات بشأن الصراع مع الفلسطينيين، وهو وضع رفضه أوباما الذي أكد على أن القضيتين يجب التعامل معهما بشكل متوافق.
وبينما أعلن نتنياهو، وبتذمر واضح، أنه سيدعم خلق دولة فلسطينية محدودة - على رغم أنها غير مقبولة من جانب الفلسطينيين - كانت الحكومة الإسرائيلية تواصل مقاومة الضغوط الأميركية الرامية لإيقاف بناء المستوطنات اليهودية. بقي بعض المحللين السياسيين غير واثقين من أن القائد الإسرائيلي راغب فعلا في تبنّي حل الدولتين، أو أنه يحاول كسب الوقت، ليس إلا. وعلى كل حال، فإن الحكمة التقليدية في «إسرائيل» تقول إن المواجهة بين نتنياهو وأوباما ستؤدي بالحكومة الإسرائيلية الحالية إلى الانهيار، وإلى حدوث انتخابات جديدة في «إسرائيل»، ما يجبر واشنطن على البدء بضغطها الدبلوماسي نحو السلام الإسرائيلي الفلسطيني.
في الحقيقة، لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين - بقياداتهم المنقسمة بشكل حاد - يمتلكون قادة يتمتعون بالكاريزما والسلطة الكافيتين للقيام بالخيارات الصعبة التي يمكن أن تضع المجتمعين على طريق المصالحة، حتى وإن كانت مصالحة شكلية مصطنعة.
هل يستطيع الرئيس أوباما أن يملأ الفراغ في «إسرائيل» وفلسطين والبدء في الضغط على الجانبين للنظر في مسألة اتخاذ بعض الحلول الوسط حتى وإن كانت مؤلمة؟
هل ستكون المملكة العربية السعودية، ومصر، والدول العربية الأخرى، قادرة على دعم الأميركان إذا ما قرروا القفز في المياه الباردة لعملية السلام في الشرق الأوسط؟
وهل ستحاول إيران وحلفاؤها في المنطقة إجهاض الجهود الأميركية، أو يقرروا الانضمام إلى الجوقة التي تقودها أميركا؟
وهل ستكون لدى أوباما القاعدة السياسية الرصينة لمواجهة المجموعات القوية التي تساند نتنياهو في واشنطن؟
هذا بعض من الأسئلة التي تدور في خلد المراقبين في الشرق الأوسط، وكذلك في الأماكن الأخرى، وهم ينتظرون من أوباما إطلاق مبادرته حول الشرق الأوسط، والتي طال انتظارها، في الشهور القليلة المقبلة. ولكن القلق الرئيسي الآخر - بالرغم من النوايا الحسنة للرئيس أوباما - هو ما إذا كان تآكل القوة الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية قد يضع بعض القيود الهائلة على قدرة الرئيس على تحويل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وجلب السلام إلى الأراضي المقدّسة.
*زميل باحث في معهد كيتو، ومؤلف كتاب «عاصفة الصحراء: فشل السياسة في الشرق الأوسط» عام 2006، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2531 - الإثنين 10 أغسطس 2009م الموافق 18 شعبان 1430هـ