ملاحظات نقدية كثيرة يمكن إدراجها بشأن حيثيات ومداولات مؤتمر حركة «فتح» الذي عقد في بيت لحم. فالكلام الذي قيل عن أخطاء فنية في إدارة الجلسات وتجاوزات تقنية في اختيار الأعضاء أو الترشح على المواقع القيادية العليا وغيرها من فوضى أربكت النقاشات التي دارت حول التقارير المالية والسياسية وثغرات التجربة السابقة تعتبر في مجموعها نتاج سلبيات تراكمت خلال العقدين الماضيين.

أهم حدث في مؤتمر «فتح» السادس أنه عقد أخيرا. ومجرد انعقاده في داخل الأراضي الفلسطينية يشكل خطوة سياسية تعزز المعنويات وتخفف من «نقص المناعة» الذي بدأت الحركة تعاني منه بعد انقطاع عن تجديد الخلايا دام أكثر من عشرين عاما. وإعادة وصل «فتح» بأطرافها يعطي دفعة باتجاه ربط الأجيال بين قيادة تقدمت في السن واكتسبت تجربة غنية وبين قواعد شابة تطمح إلى لعب دور في تاريخ حركة أسست قواعد عمل الكفاح الفلسطيني المعاصر. وهذه القيمة التاريخية تعطي «فتح» أفضلية في القيادة السياسية وإعادة المأسسة التنظيمية وإطلاق دورة من النشاط قد تساهم في هيكلة العلاقات على المستويات الثلاثة: السلطة، الحركة، والفصائل الفلسطينية الأخرى.

مسئوليات «فتح» كبيرة وهي لوحدها تتحمل مهمات توازي كل تلك المطلوبة من القوى والتنظيمات المجاورة أو المنافسة. فالحركة هي الأقدم والأكفأ والأقدر والأكبر وهذا ما أعطاها ذاك الإرث التاريخي الذي لا يجوز التفريط به مهما كانت الأعذار والأسباب.

حتى اسم فتح (حركة تحرر وطني) يعكس رمزيات ويعطي إشارات تؤكد الطبيعة الوطنية لحركة التحرر الفلسطينية. فالاسم له دلالة وطنية جامعة ومشتركة يتخطى كل الفصائل الأخرى التي حملت هويات أيديولوجية وعقائدية أو دينية ومذهبية.

هوية «فتح» وطنية وهي في معطياتها السياسية جمعت كل الشعب الفلسطيني تحت مظلتها من دون تمييز بين الديانات والمذاهب والعقائد والأيديولوجيات. وهدف «فتح» وطني لأنه حدد شروط ولادة الحركة بحق العودة وحق استرداد الأرض وحق بناء دولة تتعايش في إطارها مختلف الجماعات الأهلية والأحزاب والمنظمات الأيديولوجية.

قوة «فتح» التاريخية تكمن في هذه الخصائص التي أعطتها شرعية القيادة وجعلت منها هيئة ناظمة لكل القوى من دون تمييز بين يساري ويميني مسيحي ومسلم. فالحركة منذ انطلاقتها السياسية والمسلحة توجهت إلى الشعب كله وليس إلى فئة معينة منه. وبسبب هذه الخصوصية احتلت «فتح» منذ البداية موقع المركز بينما كانت الفصائل الأخرى تدور أيديولوجيا في ذاك الفضاء الوطني. الجبهة الشعبية مثلا جاءت من رحم حركة القوميين العرب إلى اليسار. والجبهة الديمقراطية انشقت عن الجبهة الشعبية باتجاه جرعة زائدة من الاشتراكية العلمية (الماركسية- اللينينية). والصاعقة «الفلسطينية» كانت تابعة أيديولوجيا وتنظيميا وسياسيا وإداريا لحزب البعث السوري في دمشق. وجبهة التحرير العربية «الفلسطينية» شكلت أيضا قناة تواصل مع قيادة حزب البعث العراقي في بغداد. حتى «حماس» جاءت ولادتها القسرية في إطار امتدادات حركة الأخوان المسلمين وعمل الجمعيات الخيرية في فلسطين.

كل الفصائل الفلسطينية باستثناء «فتح» كانت أيديولوجية المذهب وحملت معها إلى منظمة التحرير ألوية حزبية وشعارات سياسية مبرمجة أو موظفة لمصلحة هذا النظام العربي أو ذاك. «فتح» كانت الاستثناء وشكلت حالة خاصة في إطار مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. وأعطت هذه الخصوصية حركة «فتح» مجموعة امتيازات لكونها أولا وطنية تلبي حاجة محددة (تحرير الأرض والعودة) وتعكس وحدة الشعب في كل فئاته وأطيافه وتلاوينه الأهلية. ولكونها ثانيا مستقلة لا تتبع أيديولوجيا هذا النظام ولا تأتمر ماليا بذاك النظام باعتبار أن الهدف ليس بناء سلطة بقيادة حزب وإنما تحرير أرض لمصلحة شعب.

«حماس» ليست بديلا

كل هذه الخصائص هي امتيازات لأنها تشكل ثروة سياسية تاريخية يمكن استخدامها حاليا وإعادة البناء عليها باتجاه العودة إلى الموقع المركزي السابق الذي كانت تحتله «فتح» في مختلف المراحل والعهود التي مرّ بها الشعب الفلسطيني في العقود الأربعة الأخيرة. وهذا بالضبط ما يعطي «فتح» الأفضلية في معركة التنافس مع الفصائل الأخرى. فالفصائل الأخرى حزبية ولا تستطيع تجاوز طابعها الأيديولوجي ومنابتها العقائدية التي ولدت أو خرجت منها.

حتى «حماس» لا تمتلك تلك القدرات على تجاوز «فتح». وهذا هو الفارق بين «حركة مقاومة إسلامية» وبين «حركة تحرر وطنية». فالأولى أسيرة تنظيم محكوم بأيديولوجية محددة تمنع التطور والانفتاح والاستيعاب بينما الثانية تتميز بالمرونة التي تستقبل الجديد من كل المناطق والأطياف وتواصل التقدم والتكيف مع المتغيرات مهما كانت الصعوبات. وبهذا المعنى يرجح أن تكون «حماس» قد بلغت حدها الأقصى ولم يعد بإمكانها التطور والتقدم بسبب عجزها الموضوعي عن إعطاء إضافة ذاتية توسع المدى أو ترفع معدل الزخم الذي وصلت إليه «فتح» في زمانها.

هناك فرصة لحركة «فتح» أن تستعيد مكانتها وهيبتها في حال أحسنت التصرف في التعامل الخلاق مع تاريخها وإرثها وتجربتها التي أعادت سابقا قضية الشعب الفلسطيني إلى الخريطة الدولية والسياسة الإقليمية. وفرصة «فتح» قد تكون بدأت في المؤتمر السادس الذي نجح على الرغم من كل الثغرات والهفوات في وضع حد للتراجع والترهل والتدهور. ونجاح «فتح» في وقف تفشي «نقص المناعة» يساهم في تأسيس قواعد انطلاق تنشط روافد وخلايا الطابع الوطني للقضية الفلسطينية.

«حماس» أعطت ما عندها وبدأت كما يبدو مرحلة الدخول في طور «الشيخوخة المبكرة» بعد أن انكشف برنامجها الأيديولوجي (الحزبي) في تجربة الانفراد في حكم قطاع غزة. فالتجربة كانت غير مشجعة ميدانيا بسبب ضيق الأفق وعدم القدرة على الانفتاح والاستيعاب والتواصل مع الآخر خارج القنوات الحزبية والأطر والشعارات واليافطات الأيديولوجية التي قد تصلح للمعارضة ولكنها غير مفيدة في تأسيس سلطة حكيمة ومتسامحة مع أهل القطاع.

«حماس» ليست البديل ولا تستطيع أن تحتل موقع «فتح» لكثير من الاعتبارات والمعطيات والخصوصيات. و«حماس» أيضا فشلت في تقديم نموذج متقدم في تجربتها العملية في القطاع ما ساهم لاحقا في إعادة الاعتبار لدور «فتح» وجعلها تستفيق من نومها الطويل وتعود إلى الساحة بصفتها حاجة وطنية وذات وظيفة جامعة تلبي رغبات متنوعة لا يمكن حصرها في دائرة حزبية وعقلية أيديولوجية.

هناك فرصة إذا. والفرصة لا يمكن أن تأخذ موقعها إذا واصلت قيادة «فتح» سياسة المناكفة مع «حماس». «فتح» حاجة وطنية جامعة بينما «حماس» مجرد حركة حزبية (فصيل أيديولوجي) لا تستطيع أن تنمو وتتطور خارج نطاق دائرتها العقائدية التنظيمية. وهذا ما يضع «حماس» إلى جوار الفصائل الفلسطينية الأخرى كالجبهة الشعبية، والديمقراطية، والصاعقة، وحركة التحرير، والنضال الشعبي وغيرها من هيئات.

نقطة قوة «فتح» أنها ليست حزبا ولا تحمل هوية أيديولوجية أو مذهبية. وهذا الأمر يعطيها خصوصية تلبي حاجات قضية شعب لا يزال في طور حركة التحرر الوطني. وحتى تكون «فتح» على مستوى المهمة الوطنية عليها أن تقلع عن سياسة اعتبار «حماس» منافستها على القيادة. والإقلاع يتطلب ولادة جديدة تبدأ بإعادة ترتيب أولوياتها وترسيم خطوط التداخل والاختلاف مع وظيفة السلطة من جانب ودور منظمة التحرير من جانب آخر.