تراجعت تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال الربع الثالث من السنة المالية 2008/2009 (السنة المالية المصرية تبدأ في يوليو/ تموز من كل عام) بقرابة 550 مليون دولار عن الفترة ذاتها من العام الماضي. هذا ما كشفه تقرير صادر عن البنك المركزي المصري، الذي أشار إلى انخفاض تلك التحويلات «من 2.285 إلى 1.738 مليار دولار».
ويرى التقرير، أيضا، أن أبرز التراجعات جاءت من الدول الغربية والخليج «حيث احتلت الولايات المتحدة المركز الأول مع 544 مليون دولار، مقابل 642 للعام الذي سبقه، في حين تراجعت التحويلات من الكويت إلى 337 مليون دولار، مقابل 485 مليون للعام الذي سبقه. أما السعودية، فقد تراجعت التحويلات من 254 إلى 196 مليون دولار، مقابل تراجع أقل وطأة للتحويلات في الإمارات، إذ تراجعت من 326 إلى 298 مليون دولار».
تقرير آخر أعدته محللة مالية، يصفها موقع (سي إن، إن) بأنها معنية «بمراقبة عمل وصفقات الصناديق السيادية» فيكتوريا باربري يظهر بأن «الصناديق السيادية العربية خسرت المليارات خلال الأزمة المالية العالمية الحالية، وتراجعت قيمة استثماراتها بنسبة 67 مليار دولار منذ بدايتها، «مضيفة» بأن هذه الصناديق لم تعد تفكر باستثمارات بأمريكا، بانتظار استقرار أوضاع الأسواق هناك، (لكن) اهتمامهم ينصب حاليا على أوروبا،لأن تلك السوق توفر لهم حاليا فرصا مجزية للغاية».
من هذين التقريرين يمكن أن نستخلص الحقائق التالية:
1. أن هناك سيولة نقدية ضخمة تتدفق بين البلاد العربية، ليست مصر سوى أحد علاماتها البارزة، وهي الآن في اتجاه واحد، أي من تلك الدول النفطية الغنية إلى تلك السيولة إلى غير النفطية منها، وأن هذا التدفق ما يزال عفويا لا يخضع لأية رقابة، باستثناء تحديد أرقامه، ولا يسيره أي نظام مؤسساتي، ولذا فهو يضيع، بالمعنى التنموي للكلمة، بين أيدي الأفراد الذين يملكون الأموال المتدفقة، ويتصرفون في إنفاقها بشكل فردي، ولأغراض شخصية، بعيدة كل البعد عن أية خطة تنموية تعمل على تحويلها إلى رأس مال منتج يمارس دوره في عمليات التخطيط والبناء الاقتصادي في البلدان المتلقية لتلك التحويلات النقدية مثل مصر.
2. باستثناء ما هو معلن ورسمي، تفتقد الدول العربية المتلقية لتلك التحويلات أي شكل من أشكال الرقابة الضريبية الصارمة والفعالة التي تبيح لها وضع نظام ضريبي متكامل يحفظ للدولة حقها في تلك الأموال التي، كما تشير تلك التقارير، تصل قيمها الربع سنوية إلى مليارات الدولارات، التي تفقد نسبة عالية من قيمتها التنموية، بل وحتى الشرائية، نظرا لبدائية قنوات التحويل من جهة، وغياب التخطيط المؤسساتي لأوجه تدفقها، وقنوات حركتها من جهة ثانية.
وبالمقابل ليست هناك أية أنظمة ضريبية على الدخول الفردية مثل الدول الخليجية، الأمر الذي يفقد هذه الدول الأخيرة مبالغ كبيرة، فيما لو طبق فيها نظام ضريبي على كل من هو غير مواطن أصلي يعمل فوق أرضها، ويستفيد من الفرص المالية التي توفرها.
3. أن الأموال العربية المتكدسة في الصناديق السيادية تفقد على أكثر من صعيد، أول تلك الأصعدة أن نسبة عالية منها تستثمر في أسواق الغرب، حيث تخضع للأنظمة الضريبية المطبقة في تلك البلدان، وتصبح عرضة لخسائر جراء أزمات اقتصادية من أسواق غير أسواقها المحلية، التي لا تملك أي شكل من أشكال السيطرة عليها أو القدرة على الوصول إلى المعلومات الحقيقية التي تسير آليات تلك الأسواق، وثانيها هو هجرتها إلى الخارج بدلا من استخدامها كرافعة تنموية في الأسواق المحلية، وثالثها، وهو الأخطر، أنها تصبح تحت سيطرة دول أجنبية قادرة على استخدامها سياسيا، كما رأينا بعد هجمات 11/9/2001 على الولايات المتحدة.
4. أن هناك مجالات استثمارية ضخمة، سواء في الدول الخليجية الممتلكة لتلك السيولة، أو تلك المتلقية للتحويلات من لدن جالياتها العاملة في تلك الدول، وأن الوقت قد حان كي يصل العرب إلى صيغة حضارية تقنن العلاقات الاستثمارية بين الأطراف الضالعة فيها، بما يضمن سلامة تلك الأموال المشروعات المستثمر فيها على حد سواء.
لا يحتاج الأمر إلى تدخل جامعة الدول العربية، وليس المطلوب الاستعانة باتفاقيات السوق العربية المشتركة. الأمور أبسط من كل ذلك بكثير. كل ما يقضيه الأمر بناء علاقة متحضرة تستند إلى قوانين معاصرة، وتسيرها اتفاقيات معمول بها على المستوى الدولي.
أمام هذه النقاط الأربع، لا تزال الأموال العربية تتحرك بعفوية ساذجة تدفعها الأهواء الذاتية، وتسيطر عليها قوانين الجاهلية غير العارفة بأوضاع الأسواق العالمية، والنتيجة غالبا ما تكون سلبية وضحيتها تلك الأموال العربية غير المهتدية إلى أسواقها المحلية الحبلى بكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة، والباحثة، فيما يشبه اليأس عن تلك الأموال التائهة.
لقد حان الوقت الذي ينبغي على العرب فيه أن يمتلكوا الشجاعة السياسية والجرأة الاقتصادية كي يتحكموا في أموالهم، ويتخذوا القرارات الصائبة باوجه استخداماتها، وتوقيت ذلك الاستخدام، وتحديد الأسواق التي يلجوها، ضاربين عرض الحائط بأي شكل من أشكال التهديدات التي قد تمارسها بحقهم أي من الدول الغربية التي أثبتت تجارب كثيرة أن أزمنة سيطرتها الدولية المطلقة قد أفلت
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2529 - السبت 08 أغسطس 2009م الموافق 16 شعبان 1430هـ